يقول حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله: «السياسة أشرف علوم الدين»، بل ذهب الى أبعد من ذلك عندما قال: «الفوز بالآخرة متوقف على وجود إمام، لأن المكلف لا يستطيع القيام بكل التكاليف المفروضة على الوجه الأكمل، إلاّ إذا كان آمناً على نفسه وماله وعرضه، ولا يتحقق الأمر إلّا بسلطان قاهر نافذ الأمر على الأمة، يمنع الظلم ويرد الحقوق ويبسط العدل، ومضمون قول الغزالي يفيد بأن مهمة صاحب السياسة إزالة القهر الذي يمنع العباد من القيام بواجباتهم على الوجه الأكمل، ولا يتحقق ذلك إلّا بالحرية التامة، ولا طريق للحرية إلّا بالشعور بالأمن، ولا طريق لتحقيق الأمن إلّا عبر السلطان العادل.
وإذا وقفنا على قول ابن عقيل الحنبلي في هذا الشأن: «السياسة ما كان الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يأت به رسول ولا نزل به وحي»، يتأكد لدينا أن مهمة صاحب السياسة تتلخص بتحقيق صلاح الأمة والفرد، ونفي الفساد، بكل ما يستطيع من جهد، وما يملك من طاقة، وما أوتي من علم وخبرة، وان الدين ما جاء إلّا ليعطي التجمع البشري المكنة الكافية لتحقيق أعلى درجات الصلاح، الذي يتمثل بتمكين الناس مجتمعين ومتفرقين على استثمار موارد الكون في تحقيق الرفاه، ونفي الحرج ودفع المشقة.
وعندما يتم الربط بين هذا المفهوم، ومعنى السياسة في العصر الحديث الذي يقوم بجوهره على حسن إدارة التجمع البشري، بما يحققهم مصلحتهم العامة، فإنه لا تعارض البتة بين المفهومين من حيث المعنى الجوهري ومن حيث الغاية والمقصد، ومن حيث الآثار وحملة النتائج، وإنما تقع المصادمة فيما تمت إضافته إلى معاني السياسة من مضامين مختلة مقحمة اقحاما! تقوم على مبدأ الانتهازية، والتجرد من القيم والأخلاق، وحصر السياسة بمعاني الإخضاع والقهر والتسلط! وإعلاء شأن المصلحة الخاصة على حساب المصالح العامة للأمة، وبما علق بأذهان القادة السياسيين في العصر الحديث من اختلاط معنى السياسة بالقدرة على خداع الناس وتضليل العامة، عبر (الفهلوة والشطارة)، واستخدام المال وكل ما يملك من نفوذ وقوة وقدرة على شل قدرة الخصم وإضعاف المعارضة، وإثارة التناقضات بين مكونات الشعب، وتفريق جمعهم للحيلولة دون حصول قوة منافسة تزاحم الزعيم وحاشيته على كرسي القيادة، وكل هذه الإضافات ليست من مضامين السياسة العادلة ولا تمت لمعنى السياسة السليم بصلة، مما يحتم علينا جميعاً أن نحرر معنى السياسة ومعنى الدين، ونحرر موطن الخلاف، قبل التسرع بإشعال الحرب بين الدين والسياسة.
المطلوب هو محاربة من يستغل الدين لمصالحه الشخصية أو الفئوية، وليس من يريد أن يجعل من الدين وسيلة إصلاح عامة، وعامل نهوض جمعي للأمة، و ان يسهم في بناء اطارها القيمي الحضاري ، الذي يوائم بين العلم والايمان، و بين الإيمان والسياسة، و بين الادارة والاخلاق، وبين السياسة والقيم ، بطريقة تنقي احتمال التناقض المصطنع، وتبتعد عن اثارة الحرب الضروس المستنسخة عن الصراع بين السلطة والكنيسة! التي عرفتها اوروبا،ولم تعرفها الأمة الإسلامية، ولا يعرفها التاريخ الإسلامي في كل مراحله.
د.رحيل غرايبة/الدين والسياسة
21
المقالة السابقة