إذا نحينا جانبا العنتريات الإعلامية فسوف نكتشف أن روسيا هي صاحبة مبادرة مد الجسور مع مصر، وسنجد أن المبادرة ليست جديدة، لكنها طرحت على القاهرة خلال حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكنه لم يتحمس لها لأسباب مفهومة. وهذا ما يعرفه جيدا الدبلوماسيون المصريون الذين عملوا في موسكو خلال تلك الفترة. وما حدث أن العرض تجدد مؤخرا، وهو ما رحبت به القاهرة الأمر الذي فتح الباب لاستعادة الدفء في علاقات البلدين. وكان رئيس المخابرات الروسية الذي زار القاهرة أول الداخلين، وبعده جاء وزيرا الدفاع والخارجية.
كل طرف كانت لديه أسبابه في تحركه نحو الآخر. على الجانب الروسي تمثلت الأسباب في العوامل التالية:
< حرص الرئيس فلاديمير بوتن المتأثر بحلم الإمبراطورية الروسية على إثبات حضوره في الساحة الدولية، بخلاف سلفه ميدفيديف الذي انشغل بالداخل ولم يمد بصره إلى الخارج، أدرك بوتن رغم ضعف موقفه الداخلي أنه خارجيا أصبح في موقف أقوى سواء لإدراكه أن الولايات المتحدة غارقة في تداعيات ورطتها في أفغانستان والعراق، أو لأنه حقق إنجازا دوليا مهما حيث تدخل لوقف الحملة العسكرية الأمريكية ضد سوريا. أو لأنه بمساندته لسوريا أصبح ظهيرا مهما لإيران.
< إدراك موسكو أن العالم العربي والشرق الأوسط عموما تراجعت أهميته في الإستراتيجية الأمريكية، التي أصبحت معنية أكثر بصعود الصين والتغيرات الحاصلة في آسيا. صحيح أن واشنطن لم تتخل عن دعمها لإسرائيل، إلا أن الملفات الأخرى المتعلقة بالمصالح الأمريكية في المنطقة أصبحت في عهدة أصدقاء واشنطن من العرب «المعتدلين»، الذين اطمأنت إلى قيامهم بالواجب وزيادة. وهي الخلفية التي شجعت موسكو على محاولة استعادة موقعها في العالم العربي، خصوصا أن علاقاتها الخاصة بسوريا مكنتها من الإسهام في صياغة معادلات المنطقة وتوازناتها. وتاريخيا فإن دور القاهرة في الذاكرة الروسية يتجاوز بكثير حضور سوريا.
< إن ثمة تقليدا دبلوماسيا روسيا يدفعها إلى محاولة تمتين علاقاتها مع الدول التي تهمها، وذلك من خلال إقامة لجان مشتركة مع تلك الدول يمثلها فيها وزيرا الدفاع والخارجية مع نظرائهم في الدول الأخرى لترتيب أمر المنافع المتبادلة. وقد شكلت روسيا عشر لجان من ذلك القبيل مع دول أخرى في العالم، بينها فرنسا، وهذا هو المطروح على مصر الآن.
< روسيا تخوض معركة داخلية ضد المقاومة الإسلامية لنفوذها في منطقة القوقاز وشيشينيا وداغستان وأنجوشيا ــ من ثَمَّ فإن حملتها مستمرة مع ما تسميه بالإرهاب الإسلامي. وأغلب الظن أنها وجدت في الأجواء الراهنة فرصة للتعبير عن تضامنها مع النظام القائم في مصر الذي وجدت أنه تبنى خطابا أعلن فيه أنه يخوض معركة مماثلة.
< روسيا رغم أنها ليست في وارد الاشتباك مع الولايات المتحدة، إلا أنها لا تتردد في منافستها، في الحدود التي لا تؤدي إلى إغضابها. ولا ينسى في هذا السياق الخدمات الجليلة التي قدمتها موسكو لواشنطن أثناء الغزو الأمريكي لأفغانستان، رغم أنها ليست سعيدة بالتدخلات الأمريكية في دول البلطيق، بالتالي فموسكو غير مستعدة لأن تدخل في منازعة مع واشنطن حول مصر، ناهيك عن أنها لا تستطيع أن تحل محل الولايات المتحدة فيما تقدمه الأخيرة من دعم للنظام المصري.
أما محددات الموقف المصري فيمكن الإشارة فيها إلى العوامل التالية:
< إن عدم ارتياح مصر لموقف الإدارة الأمريكية ــ الحزب الديمقراطي تحديدا ــ شجعها على التفكير في تحقيق التوازن في علاقاتها الخارجية، وكان الترحيب بالمبادرة الروسية من بين الخيارات المطروحة في هذا السياق. علما بأن تلك مجرد خطوة على طريق التوازن المنشود، والتي ينبغي أن تعقبها خطوات أخرى باتجاه إيصال الجسور ذاتها مع دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل.
< إن مصر ليست في وارد الاتجاه للاعتماد على السلاح الروسي، ليس فقط لأنه أقل تقدما من الأمريكي، ولكن لأنها معتمدة منذ سبعينيات القرن الماضي على السلاح الغربي، علما بأن عملية تغيير السلاح والعقيدة القتالية التي تستصحبها ليست بالأمر الهين، لأنها تستغرق سبع سنوات في المتوسط. لذلك فإن حدود التعاون مع موسكو في هذا الصدد لن تتجاوز إحداث تغييرات جزئية في عملية التسليح، تستفيد من الإنتاج الروسي ولا تسبب ضيقا أو غضبا من جانب الولايات المتحدة.
< إن مصر تعتبر أن ثمة فرصا واسعة للتعاون مع روسيا في مجالات أخرى تتراوح بين المنافع الاقتصادية والمفاعلات الذرية. فالصادرات المصرية (البرتقال والبطاطس أساسا) في حدود 200 مليون دولار سنويا، في حين أن الواردات الروسية في حدود مليار ونصف المليار دولار. والقمح أهم ما تستورده مصر من روسيا، والسياح الروس (حوالي 2.5 مليون سنويا) أهم ما يأتينا منها.
غاية ما يمكن أن يقال في وصف الحاصل أنه بداية محاولة محمودة لتنشيط وتحقيق نوع من التوازن في علاقات مصر بالخارج. خصوصا مع أصدقائها الذين هجرتهم، دون أن يشكل ذلك انقلابا في السياسة الخارجية، لأن قدراتنا لا تسمح بأكثر من القيام بالانقلاب في الداخل.