تعيش فنزويلا على وقع أزمةٍ سياسيةٍ غير مسبوقة، بعد إعلان رئيس البرلمان، خوان غوايدو، نفسه ”رئيسا مؤقتا”، ما أسهم في زيادة حدّة الاحتقان السياسي والاجتماعي، واتساع الفجوة بين الرئيس نيكولاس مادورو والمعارضة اليمينية. ومع ارتفاع عدد القتلى في المظاهرات الحاشدة التي تطالب برحيل مادورو، يزداد الوضع سوءا، سيما في ضوء دخول أطراف إقليمية ودولية على الخط، ما ينبئ بتدويل الأزمة الفنزويلية.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن 80% من الفنزويليين يؤيدون تنحّي مادورو عن السلطة، وإجراء انتخابات جديدة. ويبقى السؤال: لِماذا يريد معظم الفنزويليين التخلص من الإرث السياسي والثقافي الذي خلفه الرئيس الراحل هوغو تشافيز؟ لا تختلف التشافيزية عن غيرها من الإيديولوجيات والمذاهب السياسية اليسارية، في إعلان انحيازها للفئات الفقيرة والمهمشة. ومنذ وصوله إلى السلطة سنة 1999، عمل تشافيز على وضع سياسات اجتماعية مكّنت هذه الفئات من تحسين ظروف عيشها نسبيا، كما ساعد على إيجاد طبقة وسطى، لتكون دعامة اجتماعية وسياسية لحكمه، بيد أن هذه السياسات توازت مع نزوع سلطوي وشعبوي واضح طبع حكم تشافيز، من مؤشّراته هيمنتُه على مختلف مفاصل الدولة الفنزويلية، واستفرادُه بالقرار في ظل شعبيته الكاسحة التي منحته الشرعية الانتخابية والديمقراطية لحكمه السلطوي، سيما في ظل ضعف المعارضة اليمينية وانقسامها آنذاك.
ككل الأنظمة الشمولية، أخفقت التشافيزية في صياغة نموذج اقتصادي واجتماعي جديد، ولم تتحوّل مداخيل النفط إلى مصادر لسياسات عمومية متوازنة، تؤالف بين النمو والتنمية، وتضمن التفاعل بين مستوى التطور الكمي للاقتصاد والتحولات التي عرفها المجتمع الفنزويلي. وشكل تراجع أسعار النفط نقطة تحوّل في علاقة الفنزويليين بالتشافيزية، فلم تعد الدولة قادرةً على الاستمرار في تمويل البرامج الاجتماعية الموجهة للفئات الفقيرة والوسطى، فكان أن سحبت قطاعات اجتماعية واسعة دعمها النظام. ومع رحيل تشافيز في مارس/ آذار 2013، بدا أن التشافيزية تتجه إلى نفقٍ مسدود، فارتفعت نسب الفقر والتضخم إلى مستويات قياسية، وتفشّى الفساد داخل مختلف أجهزة الدولة. كما ترك رحيل تشافيز فراغا كبيرا، لم يُفلح الرئيس الحالي في ملئه، بسبب افتقاد هذا الرئيس كاريزما سلفه، وعدم امتلاكه رؤية واضحة للصراع الاجتماعي والسياسي في البلاد، ناهيك عن استبداده وتنكيله بمعارضيه، حتى ممن كانوا يحسبون على معسكر تشافيز.
لا ينبغي استبعاد الأزمة التي تعرفها التشافيزية عن السياق العام في أميركا اللاتينية، والذي يتسم بتراجعِ أحزاب اليسار التي صارت عاجزةً عن التفاعل مع التحولات المجتمعية الحاصلة، والدعمِ الأميركي المتزايد لقوى اليمين، خصوصا بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
لا تمثل الأزمة الحالية في فنزويلا تحدّيا سياسيا وثقافيا للإرث التشافيزي فقط، بقدر ما هي مساءلة، أيضا، لمستقبل الخيار اليساري في أميركا اللاتينية. وكان لافتا للغاية ما صرّح به، قبل أيام، الرئيس البرازيلي، اليميني المتطرّف، جائير بولسونارو، في منتدى دافوس، حين قال إنه لا يريد لهذه القارة أن تكون بوليفاريةً (نسبة إلى سيمون بوليفار)، وإن أحزاب اليسار لا مستقبل لها فيها، ما يعني أن الأخيرة تواجه أزمة عميقة في التعاطي مع الصعود المتواتر لأحزاب اليمين في أكثر من بلد في أميركا اللاتينية، وهو صعودٌ يعكس تشكّل ميزان قوى جديد يلوح في الأفق.
ولعل ما يزيد الوضع تعقيدا في هذا المشهد بروزُ تقاطبٍ إقليميٍّ ودوليٍّ دالٍّ بشأن الأزمة الفنزويلية الحالية، فعلى الرغم من أن بلدانا مثل المكسيك والأوروغواي وكوبا وبوليفيا وروسيا والصين لا تزال تدعم الرئيس مادورو، إلا أن اعتراف الولايات المتحدة بغوايدو رئيسا مؤقتا، واقتراب الاتحاد الأوروبي من الخطوة نفسها، بعد أن أمهل مادورو أسبوعا لإجراء انتخابات جديدة، يعزّز المخاوف من أن تتحول فنزويلا إلى حلبةٍ جديدةٍ لصراع المحاور الإقليمية والدولية.
ما يحدث في فنزويلا يترجم حاجةً ماسّةً إلى إعادة بناء معادلة التحول الديمقراطي في أميركا اللاتينية، على وقع المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي يفرضها تغوّلُ الرأسمالية المتوحشة، وهو ما يستدعي ضرورة الوصول إلى مصالحة تاريخية، تشتبك فيها المصالح وحسابات الاقتصاد والسياسة والإيديولوجيا، وتفضي إلى معادلةٍ جديدةٍ بين قوى اليمين المشدودة إلى هذه الرأسمالية، وقوى اليسار المتحصّنة بإرثِ بوليفار وكاسترو وتشافيز.