عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب
لا يميل العمانيون إلى السريالية في سياستهم ولا يعمدون إلى التعمية ولا يخبطون خبط عشواء ، لم يدمنوا حل المربعات والبحث عن الكلمات الغائبة لاستكمال نصهم أو رسم لوحتهم وإنما يستعملون اللغة الواضحة ويراكمون الخطوات المتصلة ليدركوا هدفهم بشفافية من خلال تقاسم المصالح مع الاخر الذي يحفظون له المحبة والسلام وعدم التدخل في شأنه..
في السياسة العُمانية محطات واضحة يمكن الوقوف عليها أضاءها يوسف بن علوي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في السلطنة وهو يتحدث بشكل مباشر ومبسط وواضح عن فلسفة السلطنة السياسية ويقول أنها تقوم على مبدأ السلام مع الأمم المحبة والمؤمنة بالسلام وأنها لا تتدخل في شؤون الغير ولا تسمح للغير أن يتدخل في شؤونها ..
ويواصل القول عبر الإذاعة في برنامج “هذه أميركا والعالم” أن فلسفة السلطنة هي السلام ثم السلام لكل الأمم التي تشاركنا معنى السلام ، ولكل أمة الحق في أن تعمل بالنظام الذي يتواءم معها حيث أن هناك حدودا لا تستطيع أي دولة أن تتعداها ونحن لا نتدخل في شؤون الدول الأخرى كما أننا لا نقبل أن يتدخل أحد في شؤوننا ونحن نعمل مع الغير على تكوين شراكة وصداقة مع الأخر..
الوزير بن علوي بهذا لخص السياسة العُمانية ووضع يده على أركان دبلوماسية السلطنة بما يستطيع الباحث أن يكتب فيه رسائل علمية واسعة.. فقد ظلت سياسة السلطنة أمينة على مصالحها وتضعها في الاعتبار الأول دون أنانية أو احتكار أو غضب وانما بالتراضي وظلت سياسات السلطنة التي يصممها جلالة السلطان قابوس ويعمل على انفاذها وزيره بن علوي ترفض الانحياز ،وتذهب باتجاه الحياد ،وتضع فائض امكانياتها ووقتها في خدمة الاطراف الشقيقة والصديقة المحتاجة لذلك وهناك أمثلة كثيرة على ذلك بعضها سجل في صفحات التاريخ في الماضي وبعضها ما زال يتفاعل في سوريا واليمن وفلسطين وبعضها برسم أن تخدمه السياسة العُمانية التي تعمل على التفريج والتهدئة وربط الاطراف بالمشورة وتوفير المناخ ودون أن تكون وسيطا أو أداة ضغط .
السياسة العمانية اليوم ذات تقاليد راسخة منتزعة من التاريخ العُماني عميق الجذور ومن سيرورته المعاصرة ومن الموقع الجغرافي والجيوسياسي ومن القيم التي يؤمن بها الانسان العُماني والقائمة من عقيدته ومعتقداته التي ظلت تسلك دروب الاعتدال وتبتعد عن التطرف ،إضافة إلى ما أسبغه قائد المسيرة العُمانية السلطان قابوس بن سعيد إلى المسيرة من بصماته وتوجيهاته فقد كان مطلقها المعاصر ومهندسها وما زال حاديها باتجاه أهدافها .. لقد ارتبطت المسيرة العُمانية المعاصرة باسمه وارتبط بها فقد أعطاها ما يقارب نصف القرن وهو يحدوها فكان الربان الذي سلك بها تلاطم الأمواج وما أصاب المنطقة من تسونامي .
لقد أدارت عُمان ربيعها بوعي وقدرة على الاطفاء وعظمت دور شبابها واستمعت إليه ، ولاقى قائدها شعبه في منتصف الطريق فوقروا دوره وحفظوه واخلصوا له حين وجدوه يقابلهم بتوفير فرص العمل والوظائف وزيادة دور الدولة الريعية في كفالة التعليم والصحة ولم يواجههم بالهروات والشرطة إلا في لحظة الحذر الشديدة حين كانت بعض الأيدي تمتد لتحرق فكان ثنيها ومنعها أبويا وليس سلطويا.
الدبلوماسية العُمانية مدرسة متحققة الأركان ، بدأت تهتم وحتى تأخذ بها المدارس الكبرى والراسخة في الدبلوماسية وخاصة المصرية والايرانية وسواها من المدارس المعروفة، وقد استطاعت عُمان سواء وافقها غيرها أو عارضها أن تمضي في سياساتها بثقة ووعي جعل المعنيين يراجعون أنفسهم ويثنون على نفس المواقف التي كانوا نقدوها أو أدانوها.
ظلت الدبلوماسية العُمانية جلية وظلت تشرح نفسها بالممارسة وبلغة خطاب واضحة في معناها ومبناها فلا لغتين فيها وإنما لغة واحدة فما هو فوق الطاولة هو نفسه الذي تحتها فلا يخرج من مخزنها إلاّ ما كان فيه معلنا.
ولذا لا تخجل عُمان من شيئ تفعله في السر أن تظهره إلى العلن فهي” لا تنهى عن خلق وتأتي مثله” وتدرك تماماً بالممارسة انه “كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون” , ولذا فإن الوزير بن علوي لا يتردد في الإجابة على أي سؤال يوجه له فقد يعجب الرد السائل وقد لا يعجبه لكن الوزير يتعاطى مع كل الأسئلة ابتداء من التهم الموجهة إلى السلطنة عن تسريب أسلحة عبر السلطنة إلى المقتتلين في اليمن وهي الفرية التي حملتها وكالة رويتر ونفاها الوزير بهدوء وموضوعية ودون صخب أو ردود فعل ناشزة, وكان قد أجاب عن دوافع زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو للسلطنة مبيناً كافة الجوانب ومؤمنا بضرورة المقولة التي تقول “بين عذرك ولا تبين تقصيرك”, فالسلطنة لم تأت شيئاً فرياً وهي في ما عملت وقدمت لنفسها ولمسؤولياتها وواجباتها تجاه الآخرين وخاصة اتجاه القضية الفلسطينية وشراكتها القومية والإنسانية فيها فإنها لم تضل ولم تغو وإنما قدمت ما استطاعت وتركت النتائج برسم الملاحظة والحكم عليها.
لقد سأله السائل” وهل تؤدي هذه المحادثات إلى السلام” فأجاب الوزير بن علوي: ( أن هذا الأمر يعتمد على الجانبين بسبب الإرث التاريخي مبينا أن المشكلة تكن في الاحتكام إلى الجوانب التاريخية المتعلقة بالأرض وتاريخها وعليه أن توسيع هذه الزاوية الضيقة والخروج منها والنظر إلى المستقبل وعدم العودة إلى الماضي”
إذن المسالة تعتمد على الطرفين بمعنى أن من يتعاطى مع هذه القضية أن أراد حلا سياسيا فلا بد أن يفهم ويساعد الطرفين للاقتراب بتقديم رؤية قابلة للأخذ بها وهي ظلت دائما فلسفة الوزير بن علوي أن خصمك أن أردت أن تدفعه ليقبل بتصورك عليك مساعدته بتبصيره أو تقديم شئ يغريه وبعد ذلك فان ” المكفن يكفن ولكن لا يضمن الجنة”!! كما ظل يقول الدكتور عبد السلام المجالي رئيس وزراء الاردن الأسبق حين كان يجيب على أسئلة هل تضمن النجاح فيقول: “نكفن الميت ولكن لا نضمن له الجنة” !!!
لقد ظلت السلطنة وهذه مؤشرات نجاح وذكاء وخبرة تقبل القسمة على مختلف أصدقائها الذين نتعامل معهم رغم النقائض الواسعة والصراعات بينهم فهي تتعامل مع إيران ومع الولايات المتحدة وتتعامل مع إيران ومع دول الخليج وخاصة السعودية التي لها مواقف من إيران وكانت تتعامل مع العراق ومع إيران في زمن حرب الخليج الأولى وهي لا تفرط في حقوق الشعب الفلسطيني وتدافع عنها في صيغة قرارات الشرعية الدولية وهي مع مصر حين قلب العرب لها ظهر المجن واخذوا الجامعة العربية منها وهي مع سوريا حين تركها العرب وقبلوا الفتوى الأميركية فيها دون أن تأخذهم حقوق الإخوة بالتوقف.
والسلطنة استقبلت عائلة الرئيس السابق علي عبد الله صالح واستقبلت خصومه وكل الأطراف اليمينة ولم تغلق أبوابها أمام العابرين اليمنيين ولم تعاقبهم كما تفعل كثير من الدول التي ما أن تقع حتى تكثر السكاكين في أجساد مواطنيها ويشملهم الاتهام دون أن يكونوا مسؤولين عن سياسة بلدانهم.
واستقبلت أسرة العقيد القذافي الذي كان في سياستة المبكرة في السبعينات ضد السلطنة والسلطان, فقد ظلت السلطنة في سياساتها تمسح السيئة وتستبدلها بالحسنة لتجد بعد ذلك ما يمكث وينفع الناس
وهناك سلسلة من الأمثلة على كل الخطوات التي أنتهجتها السياسة العُمانية إزاء الشقيق والقريب والصديق وحتى مختلف الدول التي تعاملت معها.
قد يحار المراقب كيف تتعامل السلطنة مع كل الأطراف وتبقى غير منحازة وتسير على الحبل وكيف تقر كل الأطراف بفضلها ودورها كما في الاتفاق النووي الإيراني بين إيران والولايات المتحدة أو التوسط في القضية اليمينة أو الامتناع عن الانخراط في التحالف الذي استهدف اليمن باسم “عاصفة الحزم”.
قد تكون السياسة العُمانية للوهلة الأولى مثيرة للغضب لكن بعد انقشاع الغضب تظهر حكمتها وقيمة الرؤية فيها ..
لقد رسمت عُمان لنفسها نهجاً أصبح نموذجاً تقرأ من خلاله ويقدر لها دورها فيه.