”مخيم اليرموك، ليس مكانا جغرافيا بحتا، أو موئلا لمجموعات أو كتلا بشرية من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، إنه جزء أساسي من التاريخ والفعل، الذي يلخص دراما النكبة الفلسطينية وتحولاتها، كما يلخص سطوة وقوة وحضور الفلسطيني، كما يلخص إنسانية ونبل هذا الشعب الذي رمت به أقدار النكبة خارج وطنه التاريخي فلسطين.”
يوم السبت الواقع في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر الجاري 2018، بدأت المرحلة العملية الأولى من إزالة الردم والركام من مخيم اليرموك، وبدأت المرحلة الأولى لإعادة بنائه، وإعادة سكانه ومواطنيه إليه من سوريين ومن فلسطينيي سوريا، بعد أن تكفّلت منظمة التحرير الفلسطينية بكل الأعباء المالية المترتبة جراء ذلك، في عمل قد يستغرق وقتا طويلا. فماذا يعني لنا مخيم اليرموك…؟
مخيم اليرموك، لم يكن موئلا وموقعا سكنيا لعدد كبير من لاجئي فلسطين في سوريا والشتات، ولم يَكُن أيضا منطقة جغرافية تطورت عبر السنوات المديدة، لتأخذ طابعا مدينيا، حيث صنع الفلسطينيون في مخيم اليرموك، مدينة جديدة باتت كأنها مدينة عريقة في قِدَمِها وتاريخها، بل كان مخيم اليرموك وما زال عنوانا فلسطينيا بامتياز، وحاضنة متسعة، وطنية، وقومية، وأممية، لكل حالم بالعدالة والمحبة والسلام تحت نور الشمس.
مخيم اليرموك شَكَّلَ وما زال يُشكّل بدلالاته التاريخية والواقعية والرمزية بالنسبة لمواطنيه من الفلسطينيين (فلسطين المُصغرة)، حيث ارتبط حق العودة وديمومته في دواخلهم بواقع الوجود المادي للمخيم، وبوجود أهله وسكانه، من أبناء حيفا ويافا وعكا وصفد واللد والرملة وعموم فلسطين. فرمزية مخيم اليرموك، باتت موجودة بشكل مستديم في سردية العمل الكفاحي للمسيرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وللوطنية الفلسطينية، وقد تحوّل هذا المخيم إلى مدينة عامرة بمن فيها، وصورة حية عن فلسطين، فكل من عاش بين أزقته وشوارعه، وكل من سكنه وساكن أهله ولو يوما واحدا، عشقه، وما انفك عشقه عنه حتى الآن.
مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين امتلك وما زال يمتلك متسعا حيا، نابضا، متألقا، وافرا وغنيا، في الذاكرة الفلسطينية، وفي موسوعة الكفاح الوطني الفلسطيني المُعاصر، وفي مسيرة المقاومة الفلسطينية. كما امتلك وما زال يمتلك خصوصية وفرادة ميّزته على الدوام، فهو مخيم المعسكر الأول للفدائيين الفلسطينيين ولحركة فتح والجبهة الشعبية وغيرها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني. كما هو مخيم البندقية الأولى، والشهيد الأول، والبلاغ العسكري الأول، ومقبرة الشهداء الأولى التي دفن تحت ترابها القوافل الأولى من شهداء الثورة الفلسطينية المعاصرة، وعدد كبير من قادتها ومفجريها.
مخيم اليرموك، ليس مكانا جغرافيا بحتا، أو موئلا لمجموعات أو كتلا بشرية من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، إنه جزء أساسي من التاريخ والفعل، الذي يلخص دراما النكبة الفلسطينية وتحولاتها، كما يلخص سطوة وقوة وحضور الفلسطيني، كما يلخص إنسانية ونبل هذا الشعب الذي رمت به أقدار النكبة خارج وطنه التاريخي فلسطين.
إنه المخيم الذي كان قبل محنته أواخر العام 2012 ينبض بالحياة ليل نهار، لا تعرف صباحه من مسائه، بأسواقه العامرة المدينية، وبنواديه الثقافية ومراكز المؤسسات الوطنية الفلسطينية المنتشرة على امتداده، ليضم بين ثناياه العدد الأكبر من مثقفي فلسطين وكتابها، وأدبائها، وفلاسفتها، ومنظريها، ومناضليها، وكوادرها، وفعالياتها، وحتى أطبائها، ومهندسيها، ومدرسيها، ومشاكسيها. فهو أكبر تجمع فلسطيني خارج فلسطين على الإطلاق.
مخيم اليرموك، في بيئته الوطنية، أنجب قوافل من الأجيال المتتالية من أبناء فلسطين، الذين غرسوا في دواخلهم حالة مغايرة، منذ الأسنان اللبنية، لشعب جبار ما زال يمتلك ناصية الحلم، في سيرورة لم ولن تنطفئ، حلم العودة للوطن الفلسطيني، بالرغم من النكبات التي انهالت على الشعب الفلسطيني داخل وطنه وفي دياسبورا المنافي والشتات.
في مخيم اليرموك، تفتحت عيناي على وهج الشمس ونور الحياة. وفي مخيم اليرموك وبين أزقته وحواريه وضجيجه، وتفاعلاته، ويومياته الصاخبة، بدأت عوالم الوعي تخط وقائعها في دواخلي، وفي ثقافتي، وفي تربيتي، وفي رسم مسار حياتي، منذ مدارس الأونروا، وصولا للدراسات الجامعية. فكانت بيئة مخيم اليرموك، وحياة فلسطينيي الشتات، والنهوض الوطني العام في الثورة الفلسطينية المعاصرة، عوامل ذات تأثير كبير في بناء وإنضاج الوعي السياسي والثقافي والحياتي العام الذي بت أمتلكه بعد كل تلك السنوات التي عركتني بتجاربها، خصوصا مع انخراطي منذ سنوات فتوتي الأولى في صفوف العمل الوطني الفلسطيني، وفي إطار فصيل فلسطيني، خضت في صفوفه المفاصل الأساسية من مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، مَثلي كمَثل الآلاف المؤلفة من شباب وشابات ورجال ونساء مخيم اليرموك.
في سيرة ويوميات المخيم، نَقَشَت وقائع الحياة كتاباتها الراسخة في تكويني الثقافي والسياسي ومجمل جيلي، وفي ذاكرتنا الجمعية، فبقيت معنا، تقي إيماننا الوطني الراسخ من الانكفاء أو النكوص أو الهزيمة، بدءا من سيرة مفتاح البيت في فلسطين إلى رواية الجد للحفيد عن عكا التي لولا صمودها لما جاورت البحر، عن حيفا التي لا تنام إلا على هديره، ويافا التي ظلت عروسه مهما جف وعطش. فجيلنا/جيل دياسبورا الشتات والنكبة، جيل مخيم اليرموك، كاد يمضي عمره القصير/الطويل في الهجرة إلى عودته كالحائم على بلح عسلي، يحوم به الحنين على ديار الوطن في فلسطين القريبة/البعيدة، بقوة الانشداد إلى الحياة، كما ينشّد النبات… والتين والزيتون، في اتجاهين: إلى جذوره في التربة، وإلى نور الشمس والحرية.
في معمعان تلك الثقافة الوطنية، امتلأ طريقنا المتعدد والمتجدد، المتنور والمتطور بنتاج تلاقح واقتران الوعي بالفتوة النقية، والرأي بالشجاعة، وفي السباق على طريق غد قادم يتجسد فيه الحلم الفلسطيني المشروع. وفي تلك الثقافة تشكّلنا، ودفعت بنا منذ نعومة أظافرنا، ومنذ الأسنان اللبنية، للكتابة على جدران مخيم اليرموك، وفي شوارعه، حيث رسمنا مآسينا، لنؤرخ بخربشات أقلامنا دراما اللّجوء، فتدمع جدران المخيم عند التحليق عليها. وعلى جدران المخيم نشرنا ملصقات، وصور شهدائنا. ورسمنا على جدران مدارس الأونروا لوحات العودة إلى حيفا ويافا وعكا وصفد وطبريا واللد والرملة، العودة هناك إلى الوطن السليب، وإلى الهوية التي ما زالت تعيش في وجدان كل لاجئ فلسطيني.
إن تلك الكلمات ليست شاعرية، أو لغة خشبية أو متقادمة، كما يعتقد البعض، إنها كلمات “قوة الحق في مواجهة حق القوة” ما زالت تتأجج كل يوم عند أجيالنا وتلك الأجيال التي توالدت في صفوف اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، تلك الأجيال التي تعلمت في مخيم اليرموك، حب الحياة، وعشق أوكسجينها كباقي البشر، وعشق ضوء الشمس والحرية تحت وهجها، والتضامن مع كل البشر، واجتراح أساليب البقاء واستمرار الحياة بكل مقوماتها.
لقد انطبعت حياة اليرموك، وتراثه، ويومياته، في تكوين أجيالنا، فبات مخيم اليرموك بالنسبة لمعظم أجيالنا، أهم عوالم الكون بعد فلسطين. ففيه المختصر والمفيد، وفيه الجامع والكلي، ومنه ارتسم طريقنا نحو فلسطين.
ماذا يعني لنا مخيم اليرموك؟/علي بدوان
8
المقالة السابقة