لم تتغير مواقف الأنظمة والحكومات العربية تجاه القضية الفلسطينية على مدى سنوات طويلة إلا نسبياً وبحسب الظروف والأجواء والتطورات الإقليمية والدولية، لكن من دون تأثير حقيقي، ولذلك من غير المجدي جلد الذات بالحديث عن ردود الفعل العربية الرسمية تجاه الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، والمجازر الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني، أو حتى مسألة افتتاح السفارة الأميركية في القدس، أو السخرية من الجامعة العربية، فقدرة العرب على التأثير محدودة إن لم تكن معدومة، أما الجامعة فمواقفها كمنظمة إقليمية عاكسة لقدرات الدول الأعضاء ذاتها وثقلها ومدى تأثيرها في المجتمع الدولي، لكن السؤال الذي يفرض نفسه يتعلق بالمواقف الشعبية في الدول العربية، ولماذا بدت خافتة واهنة ضعيفة؟
دعك هنا من الضجة التي يثيرها إعلام التحريض الذي تمارسه الدوحة أو القنوات التي تبث من إسطنبول ولندن والصحف والمواقع الإلكترونية الإخوانية، التي لم تترك حادثة أو موقفاً أو إجراءً أو قراراً سياسياً إلا وسعت إلى استغلاله للإساءة إلى الدول الأربع المقاطعة لقطر، إلى درجة أنها صارت تُحمّل حكامها ومسؤوليها المسؤولية عن ارتفاع درجات الحرارة في الصيف وهطول السيول في الشتاء!! ذلك الإعلام نفسه يظهر على شاشاته الإسرائيليون ليبرروا جرائمهم، أما رموز الإخوان فيكفي مشاهد بعضهم وهم يتسكعون في أروقة المؤسسات الأميركية لتحريضها ضد دولهم وشعوبهم وليس بحثاً عن الحق الفلسطيني. السؤال يتعلق بالشعوب العربية التي ظلت القضية الفلسطينية على مدى عقود في وجدانهم، وتحتل الأولوية في سلم اهتماماتهم. لماذا لم تتكرر مثلاً مشاهد المصريين وهم يندفعون إلى الشوارع للتظاهر والاحتجاج، وهم الذين فعلوها عشرات المرات في سنوات سابقة احتجاجاً على كل قرار أميركي معادٍ للعرب أو مناصر لإسرائيل وغضباً من كل تصرف من الدولة العبرية ضد الفلسطينيين؟ كان الإعلام المصري الرسمي والخاص يجيّش نفسه ويحشد الجماهير لتتبنى مواقف مناصرة للقضية الفلسطينية ومقاومة إسرائيل، مع كل جريمة إسرائيلية وتصرف أميركي أحمق. لم تمنع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل القطاعات الشعبية ووسائل الإعلام على مدى عقود من التعبير عن مواقفها وإن كبلت نظام الحكم أو الحكومة، ولم يتجاوب المصريون مع دعاوى التطبيع وظلوا يفضحون ممارسات الدولة العبرية. هكذا بقيت المواقف الشعبية في الدول العربية سبباً رئيسياً للحفاظ على توهج القضية الفلسطينية وإبقائها في بؤرة الضوء من خلال التعبير عن الغضب تجاه الممارسات الأميركية والإسرائيلية ورفضها، بل والهجوم، وبكل قسوة، على ممارسي التطبيع أو المحرضين عليه أو الساعين نحوه. ماذا جرى؟ وأين ذهب كل ذلك؟ لا تصدق إعلام الإخوان من أن الحكام العرب يمنعون الناس من التعبير عن غضبهم تجاه إسرائيل، فالكذب صار أسلوباً معتاداً لإعلام كهذا، ولا تلتفت إلى ادعاء قنوات تركيا من أن الأنظمة تشغل الناس بقضايا أخرى، فما يجري في فلسطين غير خافٍ على أحد، ولا يمكن لأي نظام حكم أن يشغل شعبه عن الجرائم الإسرائيلية والمواقف الأميركية، ولا تنخدع بالضجيج التركي و «الزعيق» الإيراني، فما يجري في السر مفضوح ويغطي على محاولات المتاجرة بالقضية وافتعال مواقف تمثيلية للتغطية على تواطؤها ومسؤوليتها عن دماء الشهداء، والكل يعرف ما جرى بعد واقعة السفينة مرمرة وقضية إيران غيت.
ضرب الربيع العربي القضية الفلسطينية في مقتل، عندما وجدت إسرائيل الدول العربية مشغولة بهمومها الداخلية، والشعوب توزعت على خيام الإيواء أو تقاوم إسقاط دولها وتفتيت جيوشها. اكتشف الناس بعد نكبة الربيع العربي أن القضية الفلسطينية استغلت بواسطة دول وجماعات وتنظيمات وجهات ساهمت وحرضت على إسقاط النظام العربي كله وعملت على ضياع دول أخرى غير فلسطين، وإشاعة الفوضى التي كانت إسرائيل أكثر المستفيدين منها، ناهيك بالطبع عن نشر الإرهاب الذي ضرب البنية التحتية والمجتمعية لدول عربية وهدد أرواح مواطنيها المنشغلين الآن بمواجهة بذور الشقاق والخلاف والتشرذم. إذا كان للأنظمة حساباتها التي عكست مواقفها تجاه القضية الفلسطينية على مدى عقود، فإن الشعوب العربية مشغولة على مدى سنوات بالعمل لحماية الأوطان من السقوط ومواجهة تنظيم الإخوان الدولي ودول وجهات تدعمه وجماعات إرهابية أخرى تلقى دعماً قطرياً وتركياً وإيرانياً تسعى لتأسيس دويلات إرهابية بغطاء من الإخوان الذين صدعوا العالم بشعارات «على القدس رايحين شهداء بالملايين» بينما كانوا «رايحين» وبالتواطؤ مع تنظيمات فلسطينية أيضاً على مقاعد السلطة ومراكز النفوذ.