المطية التي تمتطي ظهرها الولايات المتحدة وتوابعها في مواجهة الجمهورية الإسلامية الإيرانية على خلفية برنامجها النووي، والمتمثلة في اتهام طهران بـ”التدخل السافر” في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، واتهامها بـ”دعم الإرهاب”، يذكرنا بالمطية ذاتها التي ركبتها أميركا وتوابعها في التحريض ضد العراق ـ صدام حسين، مع فارق بسيط في التلاعب بالألفاظ، وهو اتهام العراق ـ صدام حسين بأنه يهدد جيرانه.
وبإخضاع الاتهامين ـ شكلًا ومضمونًا ـ إلى الفهم المستند إلى ما جرى أثناء فترة الرئيس الراحل صدام حسين، ويجري حاليًّا ضد إيران وعلى أرض الواقع سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، نجد أنهما لا يخرجان عن الهدف الأوحد ولا غيره وهو خدمة الصهيونية وتأمين كيان الاحتلال الصهيوني، وفرض الهيمنة الصهيو ـ أميركية على دول المنطقة، وسلب سيادتها واستقلالها وقرارها السياسي، والسيطرة على مقدراتها وإمكاناتها البشرية والطبيعية. فهذه الدول ـ وتحديدا التي ترفض الاعتراف بالكيان الصهيوني ـ ممنوع صهيو ـ أميركيًّا أن تبلغ شأوًا علميًّا في مختلف العلوم، وخصوصًا العلوم المتعلقة بالجانب العسكري كالذرة وتصنيع الصواريخ والفيزياء النووية والكيمياء والأسلحة الجرثومية، كما ممنوع على هذه الدول أن تقيم برامج نووية سلمية، وتستفيد من الطاقة النووية السلمية في تطوير تنميتها وعلومها واقتصادها ورفاهها ورخائها، بحيث لا تتقدم علميًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا على كيان الاحتلال الصهيوني، وحتى لا تكتفي ذاتيًّا، فتصبح المنتجات الصهيونية والأميركية والغربية بضاعة مزجاة/بائرة، فتفقد بالتالي أسباب ومبررات وجودها العسكري والسياسي والاقتصادي المهيمن على الثروات الطبيعية وبالأخص ثروات النفط والغاز. وخير برهان وأقواه على ذلك، هو الاغتيالات الممنهجة ضد العلماء العراقيين حيث كان عناصر الموساد بصحبة القوات الغازية الأنجلو ـ أميركية حاملين معهم قوائم بأسماء هؤلاء العلماء، وبالفعل تمت تصفيتهم، ومنهم من نجا واستطاع الهروب إلى الخارج تمت ملاحقته، ولم يسلم منهم إلا أولئك الذين اختاروا سوريا ملجأ لهم، وتعد تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد حول فحوى اللقاء الذي جرى بينه وبين وزير الخارجية كولن باول بُعيْدَ الغزو، وهي المطالبة بتسليم واشنطن العلماء العراقيين الذين فروا إلى سوريا، مع لغة التهديد والوعيد إن لم يقم بذلك، وهو ما رفضه الرئيس السوري، وهو أيضًا أحد الأسباب التي تُشَنُّ الآن المؤامرة الإرهابية الكونية على سوريا تحت يافطتها، بالإضافة إلى الاغتيالات التي طالت علماء في العلوم العسكرية سوريين وإيرانيين.
والمؤسف أن من بين ظهرانينا من يكرر الخطأ الكارثي ذاته مع العراق تجاه الجمهورية الإسلامية الإيرانية ـ بغض النظر اتفقنا أو اختلفنا مع اتهام طهران بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة ـ وفي سبيل ذلك أخذ يوظف خزائنه المالية ووسائله الإعلامية من أجل غسل الأدمغة وحرف بوصلة العداء لكيان الاحتلال الصهيوني إلى الجمهورية الإسلامية، فأصبحت أموال الشعوب المستهدفة بغسيل الأدمغة وثرواتهم مشاعًا لأعدائهم الحقيقيين، من خلال سياسة الابتزاز الواضحة المبنية على مشجب الخطر الإيراني المزعوم، وهي سياسة ستثبت مع مرور الزمن أنها ذريعة لحلب دول البترودولار وإفقارها، حيث تمضي عملية النهب للأموال والثروات في صورة الحماية من سقوط الأنظمة، وفي صورة ردع الخطر الإيراني بمزيد من صفقات التسلح، وإقامة مزيد من القواعد العسكرية. فالذاكرة العربية باتت أشبه بذاكرة السمك، نسي أصحابها أن العراق غَدَا لقمة سائغة في فم الصهيو ـ أميركي بسبب كذبة أن العراق يهدد جيرانه الذين كان الأميركي يقصد بها كيان الاحتلال الصهيوني وليس دول العرب.
على أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي عند ربطه بسياق الأحداث وتطورات المنطقة، ووضع كيان الاحتلال الصهيوني بينها، والذي (أي الانسحاب) يبدو في الظاهر منفردًا، لشبهة البقاء الأوروبي في الاتفاق ربما للعب دور بالوكالة، وعدم الخروج عن لعبة تبادل الأدوار، خصوصًا أنه جاء إثر اجتماعين عقدهما الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، نجد أنه لا يخرج عن السياق الذي دفع نحو تدمير العراق وليبيا واليمن، لذلك لم يخلُ الانسحاب من محاولة تحقيق أهداف منها:
أولًا: محاولة تقليم أظافر الجمهورية الإسلامية، وتجريدها من مظاهر قوتها وأمنها القومي وسيادتها، عبر ابتزازها أميركيًّا ببقاء الاتفاق النووي مقابل تخلص طهران من برنامج الصواريخ البالستية القادرة على ضرب عمق الكيان الصهيوني، وضرب القواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في الخليج العربي، ما يعيد إلى الذاكرة سيناريو العراق بتجريده من الصواريخ بعيدة المدى ومتوسطة المدى وحتى القصيرة المدى، مع ما مارسته لجنة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية “يونيسكوم” من أدوار استخباراتية وتجسسية لحساب الاستخبارات الصهيو ـ أميركية، وكذلك تجريد ليبيا من برنامجها النووي، الأمر الذي سهَّل وعجَّل بتدميرهما، وكما هو معروف عن إيران أن تفوقها العسكري يتمركز في التصنيع الصاروخي، فسلاحها الجوي غير فعَّال بالمقارنة مع الولايات المتحدة وكيان الاحتلال الصهيوني، وإذا ما قبلت بتجريدها من مصدر قوتها لن يكون حالها حينئذ بأفضل من حال العراق وليبيا اليوم.
ثانيًا: محاولة إرهاق الاقتصاد الإيراني بإعادة فرض العقوبات الأميركية على إيران، وهو ما لن يسمح لها بالاستمرار في دعم حلفائها في المنطقة كسوريا وحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية بالقدر ذاته أثناء رفع العقوبات عنها؛ أي التأثير عليها في سوريا في إطار إعادة الإعمار وفي دعم المؤسسة العسكرية والمساعدات الإنسانية، والضغط على طهران لوقف نشاطاتها من الأراضي السورية ضد كيان الاحتلال الصهيوني.
ثالثًا: وهذا مرتبط بما قبله، وهو محاولة تفجير الأوضاع داخليًّا بتحريض مكونات من الشعب الإيراني على الخروج في تظاهرات ضد الغلاء والمساعدات في خارج إيران، مثلما حصل في الأوان الأخير. وإن كان نسي الأميركي ومعه الصهيوني أن الانسحاب الاميركي وحَّدَ الشعب الإيراني، وأبان له الحقيقة بأن الهدف هو إسقاط إيران واستهدافها.
رابعًا: إن الانسحاب من الاتفاق يأتي قبل الاحتفال الإسرائيلي بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة وتكريسها عاصمة لكيان الإرهاب الإسرائيلي بمناسبة مرور سبعين عامًا على اغتصاب فلسطين، الأمر الذي سيتزامن معه مسيرات فلسطينية حاشدة احتجاجًا على الحدث، ما قد ينذر بتحول هذه المسيرات إلى انتفاضة ثالثة، يمكن لقوى المقاومة وبدعم إيراني أن تنخرط في ذلك لقلب الطاولة أو خلط الأوراق، لذلك يراد من الانسحاب قطع الطريق على طهران، وإشغالها داخليًّا عن الحدث الذي يعد منعرجًا خطيرًا للقضية الفلسطينية.
صحيح أن إيران ستتأثر من العقوبات الاقتصادية التي ستطول نفطها تحديدًا، إلا أنها ستتحرر من محاولة تنويمها في العسل بتجميد برنامجها النووي، أو إبطائه، بالعودة إلى تخصيب اليورانيوم، فمن عاش في ظل ثلاثين سنة أو يزيد على العقوبات واستطاع أن يفعل المعجزات لن توقفه إعادة فرضها. لكن على الجانب الآخر، ستكون هناك قوى متضررة، سواء بعض دول الخليج التي تعمل ضد الجغرافيا، أو الدول الأوروبية التي لا تريد أن تتخلص من التبعية لأميركا والوصف بأنها “بيبي أميركا”، فالشركات الأوروبية العاملة في إيران ستتأثر أعمالها ومشاريعها واستثماراتها، وبالتالي إما أن تصطدم أوروبا مع أميركا، وإما أن تخسر مداخيل اقتصادية واستثمارية، وفي كلتا الحالتين تكون طهران هي الرابحة.
الاتفاق النووي: الانسحاب الأميركي لخدمة الكيان الصهيوني وحده/خميس التوبي
11