في الذكرى العشرين لاتفاق أوسلو، فاضت الصحافة العربية والفلسطينية بالعديد من مقالات الرأي الناقدة لهذا الاتفاق. وشن بعض الأقلام حملة هجاء شعواء ضد ما اعتبره الرغائبيون “أم الكوارث” التي حلت بالشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، غداة التوقيع على ما يُعرف باسم اتفاق إعلان المبادئ، في حديقة الورود أمام البيت الأبيض، في العام 1993.ونحن إذ نضم صوتنا إلى أصوات منتقدي هذا الاتفاق، ونزيدهم قولاً على قول: إن هذا الاتفاق منقوص ومليء بالعيوب، ولا يرقى إلى مستوى التضحيات المبذولة بسخاء؛ إلا أننا نرى فيه، رغم كل ذلك، نقطة تحول إيجابي بمعايير تلك اللحظة التاريخية التي كانت السماء فيها قد أطبقت على الأرض، وكان حصاد عقود من الكفاح على وشك أن تذروه الرياح.إذ علينا اليوم محاكمة هذا الاتفاق، الذي أسس لمرحلة مختلفة في إطار الصراع المديد، وفق معطيات زمن التحولات الإقليمية والدولية الكبرى التي شطبت الاتحاد السوفيتي آنذاك، وقسمت العالم العربي إثر حرب الخليج الأولى، وتركت الفلسطينيين بلا غطاء قومي، وأغلقت عليهم الدروب، وجففت لديهم مصادر التمويل، وأنذرت بدفع منظمة التحرير على طريق ذواء يشبه مآلات حكومة عموم فلسطين.ولا نود في خضم هذا الليل الفلسطيني الطويل أن نجمّل اتفاقاً كان مجحفاً بكل المعايير. إلا أننا نرغب في التذكير بحقيقة أن هذا الانكفاء في مكانة القضية الفلسطينية ليس من صنع “أوسلو” على وجه التحديد، وإنما بفعل معطيات أكبر بكثير من طاقة الكفاح الفلسطيني وقدرته على وقف سلسلة من الانهيارات الكبرى، أو إجراء تعديل في ميزان القوى المائل بشدة لصالح عدو مدمج بكل عوامل التفوق الكاسحة.فعلى مدى أكثر من ستين عاماً، ظل منحنى خط التفوق الإسرائيلي على المحيط العربي صاعداً، يرقى من طور إلى طور أشد مضاءً، فيما بقي منحنى الوضع العربي والفلسطيني يهبط من درجة كسيفة إلى درجة أدنى على سلم التراجع، قبل “أوسلو” وبعده. ولم يحدث أن تقاطع الخطان مرة واحدة إلا عبر هذا الاتفاق الذي تمكّن من كبح خط الهبوط الفلسطيني لبعض الوقت، بفضل ما حققه من مكتسبات غير قابلة للامحاء.ولا أحسب أن أحداً يستطيع إنكار حقيقة أن اتفاق أوسلو نقل الشعب الفلسطيني من بطون كتب التاريخ إلى حيز الجغرافيا، وعكس اتجاه خط الهجرة الذي كان مستمراً من الداخل إلى الخارج؛ إذ أضاف أكثر من ربع مليون نسمة صاروا اليوم أكثر من نصف مليون. كما أنه أعاد الهرم السياسي المقلوب إلى قاعدته؛ حيث أصبحت اليوم أقرب موضعا من القدس مما كانت عليه في تونس وبيروت. وهو أنشأ أول كياني فلسطيني على الأرض، معترف به على أوسع نطاق.ورغم كل العثرات والأخطاء التي واكبت هذا الوليد السياسي الهش، وكل العيوب الخَلقية فيه، فقد أتاح للفلسطينيين فرصة لمواصلة الاشتباك مع الاحتلال بأساليب جديدة، ومكّنهم من تعزيز حضورهم على المسرح السياسي، وأتاح لهم إدارة شؤونهم الذاتية بقسط من الاستقلال، وانتخاب مؤسساتهم التمثيلية وفق القواعد الديمقراطية، ورفع سوية مقومات الصمود والبناء لديهم، وحسّن شروط المجابهة والنضال بكل الأشكال المتاحة.ولعل السؤال الذي لم يراود خيال الساخطين على “أوسلو”، هو: هل الحال الفلسطيني بدون هذا الاتفاق كانت ستصبح أفضل، وأن منظمة التحرير كانت ستظل بعد عشرين سنة مؤهلة لتمثيل الفلسطينيين والنطق باسمهم، وأن الأرض المحتلة كانت ستدنو درجة أقرب من عتبة الخلاص، وأن الشتات الفلسطيني لن يتحلل في منافيه، وأن الشعب الذي كان بمثابة فائض سكاني في الشرق الأوسط كان سينجو من مصير هندي أحمر؟يحضرني في هذا المقام نص من خطبة عرمرمية ألقاها إسحق شامير في الكنيست لدى المصادقة على اتفاق أوسلو، وكان يوجه كلامه إلى اسحق رابين، قائلاً: ماذا دهاك يا إسحق! في أي صفحة من كتاب الشعب اليهودي سيدون اسمك؟ فقد كان أعدى عدو لليهود منذ هتلر يغرق في البحر، فكيف لك أن تمد يدك إليه، وترمي له بطوق النجاة؟
عيسى الشعيبي/اتفاق أوسلو.. رؤية مغايرة
11
المقالة السابقة