عودة الرئيس باراك أوباما إلى أنماط التردد والتراجع، بعدما بدا على وشك الحزم، جعلت الأكثرية في العالم تتساءل أي أوباما آتٍ وأيهما ذاهب ووضعت التخمين مكان اليقين.
الزئبقية الأوبامية حوّلت إبرة البوصلة لهذا الأسبوع نحو التوجه إلى إبرام الصفقة والتملص من تنفيذ الضربة. خطاب التناقضات الذي ألقاه الرئيس الأميركي ضاع بين إقناع الرأي العام الأميركي بأخلاقية عدم دفن الرؤوس في الرمال إزاء استخدام الأسلحة الكيماوية التي قال إنه متأكد من أن النظام السوري استخدمها ضد شعبه، وبين إيضاحه للشعب الأميركي أنه هو أيضاً لا يريد العمل العسكري في سورية ويود تفاديه عبر تفاهم مع روسيا على وضع ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية تحت إشراف دولي. غاب عن خطاب التناقضات أي ذكر لأفق زمني محدد للديبلوماسية الكيماوية. غابت عنه الاستراتيجية الواضحة المعالم لما يريده باراك أوباما حقاً في سورية – أهو الصفقة الكيماوية إذا كانت جدية؟ أهو العقاب والمحاسبة على تجاوز «الخط الأحمر»؟ أهو عملية إنقاذ ماء الوجه إزاء وضوح نتيجة التصويت في الكونغرس وحجب إعطائه صلاحية استخدام القوة العسكرية؟ أم إن في ذهن الرئيس باراك أوباما مفاجأة تدهش مَن يراهن على ضعفٍ بنيوي في نظر المغامرين؟
هناك مَن يعتقد أن باراك أوباما يتعمد إضعاف منصب الرئاسة لأنه يؤمن بضرورة ذلك الإضعاف. يشير أصحاب هذا الرأي إلى إصرار باراك أوباما على تقليص صلاحيات الرئاسة ووضع القرارات في أحضان الكونغرس. ويقولون إن ذلك ليس سهواً وإنما يدخل في صلب استراتيجيته. لذلك، تخلى عن صلاحية اتخاذ قرار العمل العسكري في سورية وقدم «الفيتو» عليه إلى الكونغرس على رغم احتفاظه بحق اتخاذ القرار بصفته الرئاسية.
ترجمة النظام السوري والرئيس بشار الأسد للقيود التي فرضها الرئيس الأميركي على نفسه – إضافة إلى تلك التي فرضها الكونغرس في مداولاته على أية عملية عسكرية – هي أن النظام في أمان وأن الولايات المتحدة لا تريد محاسبته ولا إزالته ولا إضعافه.
الرئيس أوباما أثبت حتى الآن أنه في صميمه لا يريد أن يفعل شيئاً نحو سورية. لا يريد شيئاً، في الواقع. جرّته التطورات إلى مواقف لم تكن في ذهنه ولا في باله. قال منذ حوالى سنتين إن على الأسد أن يتنحى، ثم طوى ذلك في ملفات النسيان والصفقات الديبلوماسية. مارس خطابة رئاسية عندما قال إن على الرئيس السوري أن يرحل، ثم اكتفى باللغط اللغوي. لم يفعل شيئاً لينفّذ كلمته – وهي كلمة الرئاسة الأميركية. رمى الكلمة، وأدار وجهه. هكذا، تراجع عملياً عما أعلنه، ومشى. أكثر من مئة ألف قتيل وملايين المشردين واللاجئين السوريين لم يعيدوا الرئيس أوباما إلى كلمة «تنحى» بل إنه دخل في المساومة على دور الرئيس السوري في العملية السياسية الانتقالية التي أصرت روسيا وإيران على أنه دور الباقي في السلطة – أقله حتى الانتخابات الرئاسية صيف 2014، فيما الحرب الأهلية مستعرة.
لم يكتفِ الرئيس الأميركي بالعودة عن المطالبة بالتنحي بل إنه، عملياً، تعهد بعدم إطاحة نظام الأسد عندما أصر مراراً على أن هدف أية ضربة عسكرية هو التأديب والردع في مجال استخدام الأسلحة الكيماوية. كان في وسعه عدم الإدلاء بمثل ذلك التعهد – كما كان في قدرته الاحتفاظ بحق الضربة وغموض أهدافها. فعل العكس، فطمأن النظام في دمشق إلى أن المحاسبة ضيقة ومحصورة كيماوياً، وليس محاسبة على أية تجاوزات أخرى. هدد، فطمأن. والآن، لدى دمشق تأكيد من الرئيس الأميركي بأن إسقاط النظام ليس سياسة الولايات المتحدة الأميركية.
عندما داهمه استخدام الأسلحة الكيماوية، جُرِح عنفوانه. فهو كان رسم «خطاً أحمر» – وحتى ذلك كان زلة لسان. إنما من وجهة نظره، كانوا يعلمون أن هذا «خطاً أحمر»، فلماذا إحراجه وهو الذي تفادى الانجرار إلى المسألة السورية. ثار غضبه إنما ثارت أيضاً مشاعره إزاء رؤية الأطفال ينتفضون أجساداً بلا دماء تلاقي الموت. فصعّد وتوعّد بضربة.
ظن البعض أن خامة أوباما الباطنية ظهرت بعد رؤية المشاهد المروعة. لذلك، انقلب على تردده واستبدل ضعفه بالعزم على العقاب. إنما ما حدث أنه ما لبث أن هدأ، وتراجع. وجد في الكونغرس مخرجاً للتملص من المسؤولية الفردية. وسريعاً ما اكتشف أنه ما زال في الورطة.
أتت المبادرة الروسية «المطبوخة» أو «العفوية» نتيجة زلة لسان أخرى – يقال – أتت على لسان وزير الخارجية جون كيري. أتت لتوفر فرصة أخرى للتملص من العمل العسكري. ولتأكيد أن التعهد بتوجيه ضربة عسكرية أتى بمبادرة من الرئيس أوباما كان في وسعه ألّا يطرحها. أما وقد طرحها، فإنه زاد من التوقعات. ثم بتراجعه عنها، زاد من الإرباك. وبعد التراجع الثاني والثالث، ساهم في ترسيخ الانطباع عنه بأنه رئيس لا يمتلك صفات القيادة.
كان في وسع الرئيس أوباما، عندما ألقى خطاب التناقضات، أن يمتلك مجدداً زمام القيادة عبر إعادة صلاحية القرار إلى الرئاسة. كان في وسعه إبلاغ الكونغرس أن روسيا طرحت مبادرة وضع الأسلحة الكيماوية السورية تحت إشراف دولي ينوي استنباطها واختبارها. فإذا أثبتت حسن النوايا والجدية، سيبني عليها. أما إذا أثبتت أنها مبادرة لشراء الوقت والمراوغة والمناورة، فإنه يعتزم استخدام صلاحيته كرئيس واتخاذ القرار المناسب – عسكرياً كان أو ديبلوماسياً.
كان في وسع الرئيس أوباما أن يبلغ الكونغرس بأن أمام هذا التطور، لا حاجة للكونغرس للتصويت على قرار. كان عليه ألا يطلب «تأجيل» التصويت بل أن يقوم بإبلاغ الكونغرس أنه سيحيطه علماً بالقرار. فعل العكس. ترك لنفسه، مرة أخرى، مساحة للتملص والتراجع عبر سجن قراره الرئاسي بتصويت الكونغرس. ومن أجل إثبات تناقضاته، احتفظ بحق التصرف واتخاذ القرار بمعزل عن الكونغرس، إذا ارتأى ذلك.
لم يذكر الرئيس باراك أوباما في خطابه المعارضة السورية من منطلق الثقة «بالجيش الحر» الذي تقول إدارة أوباما إنها تنوي تعزيز الدعم له. بهذا، صفع مرة أخرى تلك المعارضة التي تتكل على الدعم الأميركي وتخشى في عمق أعماقها السيرة الأميركية المعهودة القائمة على خذل مَن يقف معها والاستغناء عنه.
لم يضع الدور الروسي في الأزمة السورية في إطاره بالذات لجهة مد النظام في دمشق بالمساعدات العسكرية الروسية، ولم يشرح الخلاف الأميركي – الروسي وتعطيل روسيا والصين مجلسَ الأمن عمداً كوسيلة لإجهاض كل محاولة أميركية لحل الأزمة سياسياً أو للحصول على صلاحية عسكرية. اكتفى بتقديم دور القيادة لموسكو في المسألة الكيماوية. لم يضع أية شروط أو أي إطار زمني لاختبار صدق روسيا أو سورية في إعلان الاستعداد لوضع ترسانة الأسلحة الكيماوية تحت إشراف دولي بهدف تدميرها.
بدلاً من أن يتوجه فوراً إلى مجلس الأمن بمشروع قرار بموجب الفصل السابع من الميثاق يمتحن ما أعلنته روسيا ورحبت به سورية، وافق الرئيس أوباما على إيفاد وزير خارجيته إلى جنيف للتفاوض مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على المبادرة الكيماوية. وافق على «التفاوض»، فيما كان عليه التقاط فرصة تكبيل المبادرة في قرار في مجلس الأمن. وافق على إخراج المسألة من مجلس الأمن فأعطى روسيا هدية تحييد المجلس تفادياً للفصل السابع لتكون المحادثات ثنائية، أميركية – روسية.
بهذا، خذل الرئيس الأميركي الحليف الفرنسي الذي أسرع إلى مجلس الأمن بمشروع قرار بناءً على المبادرة الروسية ردّت عليه موسكو فوراً بأنه مرفوض.
الرئيس باراك أوباما أربك حلفاءه أكثر مما أربك أعداءه. أركان إدارته صوّروا النزاع في سورية من زاوية انتصار إيران و «حزب الله» وروسيا، في حال عودته عن تعهده بالضربة. أما أوباما فإنه لم يذكر «حزب الله» في خطاب التناقضات، وأتى على ذكر إيران بليونة فائقة.
ماذا في جنيف إذاً عندما يجتمع كيري بلافروف؟ هل هناك حقاً خطة روسية متكاملة لتنفيذ وضع الترسانة الكيماوية السورية تحت إشراف دولي بهدف إتلافها؟
لافروف سيسعى وراء «ترويض» كيري ليكون مجدداً الشريك الهادئ المقتنع بالحل السياسي. روسيا لا تريد قراراً بموجب الفصل السابع بل إنها لا تريد وضع الملف السوري في مجلس الأمن. سيحاول لافروف تقنين المسألة الكيماوية ثنائياً وسيحاول إحياء «جنيف – 2» بعيداً من «عقدة الأسد». فلافروف ورئيسه فلاديمير بوتين يعتقدان أن أوباما هو حليف الأمر الواقع لهما لأنه، في رأيهما، الرجل الذي لا يريد توجيه الضربة العسكرية والرجل الذي يحتاج إلى مخرج والرجل الذي سيتردد دوماً والرجل الذي يفضل التقهقر على الإقدام.
قد تكون روسيا أوقعت نفسها في ورطة الفصل السابع لأن آلية تنفيذ وضع الترسانة الكيماوية تحت الإشراف الدولي تتطلب قراراً من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع – إذا كانت روسيا وسورية جديتين. هذا يعتمد على إذا ما كانت إدارة أوباما جدية حقاً – أما إذا كان هدفها تلقي المبادرة الروسية من أجل التملص والتردد والتراجع مجدداً، فإنها ستسمح بالدخول في متاهات المفاوضات الديبلوماسية الثنائية مع روسيا لأجل غير مسمى.
منطقياً، ما أسفرت عنه التطورات هو أن ترسانة الأسلحة الكيماوية باتت في الساحة. فأما أن يفعل بشار الأسد ما فعله صدام حسين عبر الموافقة على تدمير ترسانة أسلحة زعماً أنها أساسية في مواجهة العدو الإسرائيلي، وبذلك يوافق الأسد على تدمير قدرات رئيسة لـ «المقاومة» – أو أنه يسمح للمفتشين الدوليين بدخول سورية كما فعل صدام حسين مُرغماً فيما يقوم بإخفاء الأسلحة. والنتيجة واحدة. فكلاهما وضع النظام فوق البلاد. وما يحدث الآن هو تطوّر جذري يفتح باب التفتيش الدولي والتدقيق في صحة الإعلانات، مهما كان ذلك المسار معقداً أو صعباً.
فلقد كان المخرج الكيماوي مخرجاً موقتاً لكل من أوباما وبوتين والأسد، لكنه قد يكون مدخلاً دائماً إلى سورية يشابه ذلك المدخل المشهور إلى العراق. فبصرف النظر عما إذا كان أمامنا أوباما المعتاد بتردده وبتراجعه أو أوباما المفاجأة، لقد طرأ جديد جذري على المسألة السورية أتى به استخدام الأسلحة الكيماوية.