على الرغم من كل جرائم وإرهاب «داعش»، فإن المراجع الدينية، ولأي مذهب انتموا، لا يزالون يرفضون تكفيرها وأمثالها من المنظمات الإرهابية، ويبررون ذلك بعدم رغبتهم في السماح لها بالتوسع في استخدام «حقهم» في تكفير من يشاؤون. ولكن الحقيقة أنه لا الأزهر ولا المؤسسات الدينية الشيعية قصرت يوماً في تكفير من شكّل خطراً على مصالحها أو كشف ضيق أفقها. وبالتالي، قاسى الكثيرون من «سيف إرهابها»، والمطالبة بقتلهم، وخصصت مكافآت مالية لمنفذي عمليات اغتيالهم، مع الأجر الأخروي. فقد كفّر الأزهر الشيخ محمد عبده في أواخر القرن الـ19، وهو الذي قال في أحد حواراته «مكثت عشر سنين أكنس دماغي مما علق به من الأزهر»!
كما عارض الأزهر كلّ محاولات تجديد الخطاب الديني، بدءاً من طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي»، الذي صدر في 1926، والذي على أساسه تم تكفيره، رغم أن الكتاب كان بحثاً علمياً في الشعر الجاهلي، مروراً بمحمد أحمد خلف الله 1947 وكتابه عن الفن القصصي، وصولاً إلى عشرات غيرهم مثل العالم علي عبدالرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، وهو القائل إن الإسلام دين لا سياسة، وليس فيه نص على شكل معين للدولة. ورغم ذلك، فقد كان الأزهر له بالمرصاد، حيث طرده من «زمرة العلماء»، ومنع كتابه.
كما اصطدم الأزهر عام 1950 بخالد محمد خالد حول كتابه «من هنا نبدأ» الذي دعا فيه إلى مدنية الدولة. وهناك عداؤه مع نجيب محفوظ وروايته «أولاد حارتنا»، هذا غير دور المؤسسة الدينية في اغتيال المفكر فرج فودة. كما وصلت التكفيرات إلى خارج الحدود، حيث أيدت قيام الرئيس السوداني جعفر النميري بشنق المفكر محمود محمد طه عام 1985، بسبب كتابه «الرسالة الثانية للإسلام».
وفي التسعينات، أصبحت جبهة علماء الأزهر رأس الحربة في مواجهة كل مثقف من خلال مصادرتها لأي أبحاث أو روايات لا تعجبها، مثل كتابات محمد سعيد العشماوي، بالرغم من طابعها التنويري، وتكفير حامد نصر أبو زيد وتطليقه من زوجته، وترهيب المفكر سيد القمني، هذا غير منعها لمسلسلات تلفزيونية، وأفلام ومسرحيات ودواوين شعر!
كما تحالفت المؤسسة الدينية مع الإخوان والسلف، لا سيما في التسعينات، ومنه انطلقت الأعمال الجهادية، وملاحقة المفكرين وتهديدهم بالقتل. وأخيراً، لم يسلم من شرورهم أمثال البحيري ويوسف زيدان وإبراهيم عيسى. وبالتالي، أصبحت السمة العامة في بلدانا التشدد مع المفكرين الأحرار، والتسامح مع الإرهابيين. ولهذا، فإن المؤسسات الدينية لا تختلف عن «داعش» في مواقفها وتفسيراتها، مع اختلافها عنها قليلاً في الأسلوب وطريقة التطبيق. فالمسيحيون مثلاً «كفار» بنظر الطرفين، ولكن طرفاً يرى أن التعامل معهم يكون عن طريق الإحسان والتعايش و«هم صاغرون»، وطرفاً يرى أن التعامل لا يمكن إلا بدفع الجزية أو القتل، إن رفضوا اعتناق الإسلام.
وفي الكويت، عانينا كثيراً من تكفير المفكرين والأكاديميين، وكان الزميل عبدالعزيز القناعي آخر ضحايا هذا الفكر المتخلف، وسبقه أحمد البغدادي، وغيرهما.
إن تقدم الدول وتحضرها لا يأتيان من مواطن خائف وخنوع، بل من مواطنين أحرار مؤمنين بالديموقراطية، وبما يتبع ذلك من إيمان بحرية التفكير والقول والنشر. والشعوب المسلوبة الإرادة لا يمكن أن تتصدى لعمليات التحرير والدفاع عن الوطن والمقدسات إن كانت بلا إرادة، وتفتقد الوعي، وعودة الوعي لا تتم بغير الحرية.
الحرية والكفر/أحمد الصراف
18
المقالة السابقة