نقل استخدام الأسلحة الكيماوية في الغوطتين المسألة السورية الى عتبة جديدة نوعياً على الصعيد العسكري في ساحة القتال كما على مستوى العلاقات الدولية والإقليمية. محور روسيا والصين وإيران و «حزب الله» والنظام في دمشق يقع الآن في ورطة حائراً. أمامه خيار الانحناء أمام اندفاع عسكري للولايات المتحدة لتلقين الدرس وتأديب مَن يستخدم أو يحمي الذي استخدم هذا السلاح اللاأخلاقي، وإن كان عبر ضربات غير قاضية هدفها ليس اقتلاع النظام. وأمامه خيار التصدي للعلميات العسكرية الأميركية المدعومة من دول أخرى في حلف شمال الأطلسي منها تركيا. الخيار الأول مخجل، لا سيما بعد كل تلك المغالاة والغطرسة والتشجيع على التعنت والرهان على ضعف بنيوي في الرئاسة الأميركية. الخيار الثاني معقد، لأن لكل من أطراف محور الممانعة علاقات وحسابات مدروسة مع الولايات المتحدة الأميركية لن يغامر بها بسهولة، لربما بين طيّات تطورات الأسبوع الذي مضى معطيات تدفع اللاعبين الدوليين والإقليميين الى تلك «الصفقة الكبرى» التي كلّف صنعها حتى الآن ما يفوق مئة ألف ضحية سورية ومليون طفل لاجئ سوري واستخدام أسلحة كيماوية تمزق القلب رؤية ضحاياها. لكن الواضح ان ما حدث هذا الأسبوع حذف من المعادلة امكانية حل على نسق نموذج اليمن بحيث يتنحى الرئيس في عملية خروج لائق. لقد فات الأوان. استخدام الأسلحة الكيماوية هو جريمة ضد الإنسانية لن يسهل بعدها البقاء اللائق لبشار الأسد في الرئاسة الى حين الانتخابات المقبلة منتصف عام 2014. ففي هذا أيضاً فات الأوان. أية «صفقة كبرى» إذاً، إذا كانت في الاعداد، فستتعدى الرئيس السوري ومعظم أركان نظامه باستثناء عناصر مهمة استثنائية في الجيش النظامي. ولذلك برز الحديث عن «جيش جديد» المقصود به ان يضم عناصر من «الجيش الحر» باستبعاد تام للمتطرفين في المعارضة السورية، وعناصر من «الجيش النظامي» باستبعاد من يقدم الولاء لعائلة الأسد قبل الولاء لسورية، وأية «صفقة كبرى»، إذا كانت في الوارد، ستتطلب اعادة فرز العلاقة الأميركية – الروسية، والأميركية – السعودية، والأميركية – الإيرانية، والأميركية – الصينية أيضاً. هذا الى جانب بزوغ حديث من نوع آخر بين القوى الإقليمية الفاعلة في موازين القوى في مقدمه حديث سعودي – إيراني وسعودي – تركي، ايراني – تركي، وربما تركي – اسرائيلي، انما الآن، ما يهيمن على الأذهان هو توقيت ونوعية الضربة العسكرية الموعودة وأهدافها وإفرازاتها وتداعياتها محلياً وإقليمياً ودولياً.
الرئيس باراك أوباما اتخذ قرار عدم غض النظر عن استخدام الأسلحة الكيماوية. تصريحات وزير خارجيته جون كيري ووزير دفاعه تشك هاغل توضح ان التدخل العسكري دُرِسَ والخطط العسكرية تم إعدادها وكل شيء بات رهن اصدار الرئيس أوامره.
زخم التسريبات حول المواقع والأهداف التي سيتم ضربها لافت ومدهش لدرجة اثارة الشكوك حول ما إذا كان الهدف منها التنصّل في اللحظة الأخيرة أو دفع اللاعبين الآخرين الى التوصل الى تفاهم أو صفقة تحول دون الحاجة الى التدخل العسكري. والبعض يمضي الى أبعد ويقول ان كل هذا الزخم من الأقوال والمواقع هدفه امتصاص الغضب والاستعداد الشعبي للقيام بعمل عسكري – وبعد تلك العاصفة يأتي الهدوء لإتاحة فسحة التراجع عسكرياً تحت غطاء الحاجة الى التفاهم السياسي والديبلوماسي.
آخرون يعتقدون ان ذلك التقويم هراء وأن باراك أوباما سيفاجئ من حجّمه وحاول تحقيره بوصفه ضعيفاً لا يمتلك الشجاعة على العمل العسكري وسيضرب مواقع مختلفة تماماً عما تم تسريبه. يقولون انه رجل صبور الى ان يفقد صبره، رجل تهادني الى ان يتخذ قرار المواجهة، رجل ذكي لن يدفع بوزيري الخارجية والدفاع الى اتخاذ مواقف علنية كالتي اتخذاها ثم يتراجع ويحرجهما بل يحرج أميركا.
توقيت العمليات العسكرية أيضاً سيبقى سرياً انما الواضح انه سينتظر مغادرة فريق الأمم المتحدة الذي يأخذ عيّنات هدفها ليس تحميل المسؤولية للطرف الحكومي أو لطرف المعارضة. مهمة الفريق علمية، إذ عليه ان يقدم تقريره حول ما إذا تم استخدام الأسلحة الكيماوية، وبأية نوعية، وما الى هنالك وليس استنتاج مَن استخدمها.
التحرك الأميركي بإعلان واشنطن ان لديها أدلة على قيام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين – الأمر الذي ينفيه النظام – والتحرك البريطاني بمشروع قرار طُرح في اجتماع للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن يعنيان ان انتظار مغادرة الفريق الأممي الأراضي السورية هو من أجل سلامة الفريق وليس انتظاراً لتقرير يحمّل المسؤولية لهذا أو ذاك. السفير السوري في الأمم المتحدة، بشار الجعفري، حاول اطالة بقاء الفريق في الأراضي السورية عندما طالب ان يتوجه الفريق الى ثلاثة مواقع أخرى للتحقيق، روسيا وإيران حاولتا ادانة استخدام الأسلحة الكيماوية وإدانة التدخل العسكري في آن. روسيا طالبت انتظار تقرير الفريق. والأمين العام بان كي مون دعا الى انتظار انتهاء الفريق من مهمته لكنه طالب مجلس الأمن بأن يتحمل مسؤوليته السياسية والأخلاقية.
الأرجح ان روسيا والصين ستمنعان مجلس الأمن من تبني قرار «اتخاذ كل الإجراءات الضرورية» لأنهما منعتا مجلس الأمن من أي تحرك في المسألة السورية عبر استخدامهما الفيتو المزدوج ثلاث مرات وعبر تعطيل أية محاولة لإصدار بيان رئاسي يتطلب إجماع أعضاء المجلس.
واضح، إذاً، انه لن يكون هناك تدخل عسكري بموجب قرار من مجلس الأمن يعطي تلك الصلاحية. فمن يقول ان قرار مجلس الأمن ضروري لأي تدخل عسكري يقصد القول انه لا يريد أية عملية عسكرية حتى إن كان هدفها احتواء نزعة النظام في دمشق لاستخدام السلاح النووي الفتاك ضد أطفال ونساء ورجال سورية. كل تفسير آخر ليس سوى دفن للرؤوس في الرمال، إلا لدى الذين هم مقتنعون حقاً بأن ذلك القدر من الغازات السامة متوافر لدى المعارضة السورية بما أدى الى قتل مئات الأبرياء – وعلى هؤلاء ان يتحملوا عبء الإثبات، وليس العكس.
يجب ان تكون روسيا مُطالبة بأن تتحمل عبء الاثبات بأن المعارضة استخدمت تلك الأسلحة الفتاكة، وإلا فإنها حقاً تستهتر بأرواح الشعب السوري وبالذات أطفاله، فإذا تمكنت حقاً من اثبات مزاعمها بالسرعة الضرورية، بجدية وبأدلة واقعية ليست على نسق بدعتها الأخيرة، يجب عندئذ ان تتم معاقبة المعارضة السورية التي استخدمت هذا الغاز السام بإجماع دولي بلا تردد أو مماطلة وليس مقبولاً أبداً أن تكون الأسلحة الكيماوية وسيلة لأي هدف ان كان هدفاً للمعارضة أو هدفاً للنظام. انه جريمة لا تُغتفر.
مهما كانت غايات المناورات السياسية أو المحادثات الجانبية، ان ما حدث من استخدام للأسلحة الكيماوية – التي أكدت واشنطن انه أتى على أيدي النظام في دمشق – أسفر عن تحوّل نوعي في موقف الرئيس باراك أوباما الذي طالما قاوم الانجرار الى الساحة السورية. لعل أركان النظام في دمشق أساءوا قراءة الرئيس أوباما أو أساءوا تقدير رد الفعل الدولي بعدما تم استخدام قدر أقل من الأسلحة الكيماوية. ما حدث هو ان ذلك «الخط الأحمر» لم يعد ممكناً التملص منه بعد الغوطتين.
فأميركا دخلت المعركة السورية بعد الكيماوي، مباشرة إذا قصفت، وغير مباشرة إذا سلّحت المعارضة أو سمحت بتسليح نوعي. الحديث اليوم يصب في خانة ضربات عسكرية لـ «تحالف» دولي تقوده الولايات المتحدة يفتح الباب أمام اقامة منطقة حظر طيران أو مناطق آمنة وممرات أمنية كانت تركيا سعت وراءها منذ زمن. هذا تحوّل نوعي. قيام حلف «الناتو» بلعب دور مباشر هو أيضاً تحوّل نوعي. التحاق دول مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية وقطر وربما مصر أيضاً هو بدوره تحوّل نوعي.
كل التصريحات الأميركية العلنية تفيد بأن الهدف ليس توجيه ضربة قاضية تطيح النظام وإنما الهدف معاقبة النظام وتأديبه لا تغييره. الأسباب كثيرة، منها: أولاً، ان الساحة السورية غير جاهزة للبديل مع ان الكلام عن «جيش جديد» قطع أشواطاً مهمة. ثانياً، هناك حرص بالغ على عدم تحوّل الضربة العسكرية ضد النظام الى تقوية العناصر المتطرفة والإرهابية في الساحة السورية المعارضة. ثالثاً، عدم وضع الإطاحة بالنظام هدفاً مباشراً للعمليات العسكرية يعطي فرصة لانشقاقات نوعية تسمح بالتحاق عناصر مهمة من الجيش النظامي بالجيش الجديد الذي تقوده عناصر قيادة الجيش الحر. رابعاً، ان العمليات الجوية تأتي ركيزة اضافية وفاعلة في عملية استنزاف النظام.
بكلام آخر، سيتم فتح صفحة جديدة تماماً عندما تبدأ أول عملية عسكرية تقوم بها الولايات المتحدة والتحالف الجديد. انها صفحة الضربات الجوية المتتالية بقصف قد يدوم اسبوعاً أو سنة أو سنوات عدة . أحد أهداف ذلك، من جهة، هو إضعاف النظام وإنهاكه لدرجة اضطراره للقبول بالتنازل عما قد يكون «جنيف 2» أو صفقة من نوع آخر. الهدف الآخر هو فتح المجال لأطراف أخرى في «التحالف» لتقوم هي بالإطاحة بالنظام بدلاً من الولايات المتحدة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية وقطر وكذلك تركيا.
فهذه معركة أساسية في خريطة موازين القوى في الشرق الأوسط كما في نوعية العلاقات الدولية. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أفرط في الرهان على عجز الرئيس أوباما لدرجة الاستهتار به والإهانة له. لم يتذكر ان المؤسسة الأميركية سبق ومرّت بتجارب سوفياتية مماثلة أسفرت عن تقليم أظافر الذي تطاول كثيراً. ظن نفسه حقاً زعيم دولة عظمى ونسي ان شخصية الرئيس – على أهميتها البالغة – جزء من المعادلة. الآن، اضطر الرئيس أوباما للرد قائلاً: أنا هنا.
رفض أوباما الاستماع الى القلق العربي من اعطائه ضوءاً أخضر لتجاوزات إيران في سورية – عمداً أو سهواً – أسفر عن دور سعودي غير تقليدي بعلنيته قيامه هو بدوره أيضاً: نحن هنا. لذلك تحركت الرياض مع موسكو ومع واشنطن على السواء لتقول بوضوح ان المعركة على سورية ليست مصيرية فقط لإيران وإنما هي بالقدر نفسه من المصيرية للمنطقة العربية. انها معركة توازن القوى الإقليمية وهي معركة رفض فرض إيران وتركيا وإسرائيل قوى الأمر الواقع وحدها في موازين القوى في الشرق الأوسط.
تركيا فهمت، اضطراراً، ان مصر ليست لها عبر حكم الإخوان المسلمين. ايران ستفهم، اضطراراً، ان سورية ليست لها عبر هذه الحرب المدمرة فتركيا اليوم أضعف مما كانت عليه مطلع ولاية أوباما إذ ان مصر اليوم تحررت من «النموذج» التركي الذي اعتقد أوباما انه «روشتة» الحكم الجديد في المنطقة العربية. ايران أضعف أيضاً لأنها تورطت عسكرياً في سورية، مباشرة وعبر «حزب الله»، وهي غير قادرة اما على الاستمرار في شراء التهادنية مع الغرب في أعقاب استخدام الأسلحة الكيماوية، أو على مواجهة الغرب عسكرياً بسبب افلاسها اقتصادياً وحاجتها الماسة الى ارضاء الغرب كي لا يحاسبها على طموحاتها النووية. فحتى لو قررت طهران المواجهة عبر استدراج اسرائيل الى المعركة، فهي تدرك ان ذلك سيسفر عن فتح باب الانتقام منها نووياً على الصعيد الإيراني وفسح المجال ميدانياً لتوريط «حزب الله» في حرب لبنانية تسحب مقاتليه من الساحة السورية.
روسيا، كما إيران، لن تدخل في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة أو اسرائيل، إذ ان الساحة السورية لها هي ساحة حروب بالنيابة وليست ساحة مواجهة أميركية – روسية عسكرية. ستمضي موسكو في الغطرسة والتضليل حتى آخر رمق من النظام في دمشق، لكنها لن تنتحر من أجله. فما حدث، كيماوياً، غيّر قواعد اللعبة. وبوتين قد يقدّر الخدمات التي قدمها نظام دمشق، لكنه ليس غبيّاً ولا هو جاهز للانتحار.
انها محطة جديدة قد تؤدي الى سلام في الشرق الأوسط عبر خريطة موازين قوى من نوع آخر، وقد يكون موقع انزلاق آخر لأكثر من لاعب على حساب سورية.
راغدة درغم/لم يعد ممكناً التملص من «الخط الأحمر» بعد الغوطتين
26
المقالة السابقة