مجدّداً عادت السعودية إلى الأجندة الإعلامية الدولية والعربية، بوصفها الملف الساخن، وهو أمر بحدّ ذاته غريب، غير اعتيادي، على دولة امتازت لعقود بحالة من السكون والتأني في السياسات، وفي التعاطي مع ما يجري في الداخل وحولها.
من الواضح أنّ هنالك “ورشة تغيير” ضخمة، تبدأ بإعادة صوغ علاقة الدولة بالمجتمع، وما تزال تمرّ في عملية ترتيب “بيت الحكم” في الداخل، وتنتهي بالتكشير عن الأنياب في الخارج، وهي ملفات وتحديات هائلة أشبه بالقفز إلى “حقل ألغام” بجسارة ملحوظة!
الخطوة الأكثر خطورة، في ظني، هي إعادة صوغ العلاقة مع المجتمع، فجملة من القرارات التي تمّ اتخاذها تنمّ عن “تحول تاريخي” في الاتجاه، ما يمكن أن نختزله بفك الاشتباك بصورة متدرجة مع المؤسسة الدينية الرسمية، ومع المدرسة السلفية، التي مثّلت على الدوام “الأيديولوجيا غير الرسمية” للدولة السعودية، كأساس لمشروعية تاريخية وسياسية طويلة المدى.
العلاقة بين الطرفين (الحكم والدعوة) بدأت بالاهتزاز خلال العقود الماضية، ومثّلت أحداث 11 سبتمبر نقطة تحول كبيرة، بعدما انتقلت القاعدة (التي يقودها السعودي أسامة بن لادن إلى مرحلة استهداف الأميركيين، وشارك في الهجمات أغلبية سعودية وخليجية)، إذ بدأت الانتقادات الغربية تزيد، وأخذت الأصوات في الولايات المتحدة الأميركية تتحدث بصورة مختلفة في مراكز الدراسات والتفكير عن العلاقة مع السعودية، وهي الحالة التي استمرت وتطوّرت وظهرت في مقالات ودراسات وكتب عديدة، حتى أفصح عنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، في أكثر من مرّة متسائلاً عن المضمون الحقيقي للصداقة الأميركية- السعودية.
ولي العهد، الذي يعتبر اليوم هو المهندس الحقيقي لهذه التحولات والقرارات والسياسات، أراد من السماح للمرأة بقيادة السيارات، واعتقال قيادات سلفية معروفة عالمياً مع قيادات إخوانية سعودية، ممن عرفوا بمصطلح “الصحوة” في السعودية (كاتب سعودي مرتبط بالحكم أطلق على المعتقلين مصطلح “خلية قطر الإخوانية”، وكذلك الأمر إرخاء بعض القيود على الحياة الاجتماعية والثقافية السعودية القول بأنّ السعودية بدأت التغيير، وأنّ ما كان ينظر له بأنّه زواج كاثوليكي، ليس كذلك، وأنّ هنالك خطوات أخرى باتجاه الانعتاق من العلاقة التاريخية وتغيير قواعد الشرعية الدينية والسياسية.
خصوم الرجل ينظرون إلى ما قام به بأنّه أقرب إلى التسويق الخارجي لتسهيل وتمرير عملية انتقال الحكم بسلاسة وبمباركة غربية ودولية، نظراً لقراراته المفاجئة التي لقيت ترحيباً شديداً في الغرب وفي كثير من الأوساط العربية، لأنّ مثل قرار منع المرأة من قيادة السيارات كان ينظر له أقرب إلى النكتة في القرن الحادي والعشرين، ومع الارتفاع المذهل بنسبة النساء السعوديات المتعلمات الجامعيات، اللواتي درسن في الخارج والداخل، وحتى في أوساط الإسلام السياسي لم يعد أحد يؤمن بهذه السياسة سوى المدرسة السلفية التقليدية المتحالفة مع الحكم!
مع ذلك، وبالرغم من هذه “الدعاوى”، فإنّ ما قام به بن سلمان يكشف عن عقلية جديدة مختلفة في إدارة الحكم، حتى في الخطاب السياسي، فلم يحطْ ما قام به بالغموض، بل صرّح بوضوح “سنعود إلى الإسلام الوسطي المعتدل والمنفتح على جميع الأديان”. وأوضح أن 70 في المائة من الشعب السعودي أعمارهم لا تتجاوز الـ30 سنة، وأضاف “وبكل صراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة. اتخذنا خطوات واضحة في الفترة الماضية بهذا الشأن، وسنقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل، ولا أعتقد أن هذا يشكل تحدياً، فنحن نمثل القيم السمحة والمعتدلة والصحيحة، والحق معنا في كل ما نواجه، وسندمرهم اليوم فوراً“.