احذر من الوحش الذي استيقظ فينا، لأننا إذا لم نسارع إلى كبح جماحه فلن يسلم أحد من شروره، وستصبح مصر كلها ضحية له.
(1)
أتحدث عن خطاب الكراهية ودعوات الانتقام التي تستهدف ترويع الآخرين وتصفيتهم، ليس لإقصائهم فحسب ولكن أيضا لاقتلاعهم وحرمانهم من حقهم في الكرامة، فضلا عن الحياة والوجود. إلى غير ذلك من عناوين ومفردات حملة الجنون التي باتت تملأ الفضاء المصري، وصارت تستخلص من الناس أسوأ وأتعس ما فيهم.
أتحدث عن التهليل لاستخدام القوة وعدم الاكتراث بالمجازر التي وقعت والاستخفاف بأرواح ودماء القتلى والشماتة في الضحايا، واستسهال التخوين والتوزيع المجاني لتهم الإرهاب والتحريض على القتل وقلب نظام الحكم والتخابر مع الأعداء.
وأستغرب أن يتم ذلك كله من خلال منابر عامة، سواء كانت صحفا سيارة أو قنوات وبرامج تلفزيونية، كما يمارس من خلال سيل من البلاغات المقدمة إلى النيابة، من جانب الميليشيات الجديدة التي خرجت من المخابئ والجحور وصارت تستهدف كل ما هو سوي ومحترم في بر مصر، ولا تسأل عما هو نبيل وشريف.
في ظل هذه الأجواء المسمومة تحولت دعوات الوفاق الوطني والمصالحة والسلام الأهلي والالتزام بالتعددية واحترام الرأي الآخر والحل السلمي للخلافات السياسية، هذه كلها تحولت إلى مثالب يرمى بها من تجرأ وتطرق إليها، وأصبحت مبررات لشن حملات التجريح والتشويه. بل إن الدعوة إلى المصالحة الوطنية التي هي من أنبل وأنجح أساليب العمل السياسي صارت تحظى بدرجة عالية من المقاومة والاستنكار. وسيل الكتابات والحوارات التلفزيونية التي تبنت هذا الموقف يفوق الحصر. بل إنني قرأت سبابا لأصحاب تلك الدعوة نشرته إحدى الصحف تحت عنوان: أبوكم لأبو المصالحة! والمقصود في الدارجة المصرية هو ملعون أبوكم وأبو المصالحة التي تتحدثون عنها. أي أن الداعي إليها ليس مجرحا ومستهدفا بالهجاء فحسب، ولكنه ملعون الأبوين أيضا.
(2)
نقلت جريدة الأهرام يوم الأحد الماضي 25/8 عن المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية أحمد المسلماني قوله إن الكراهية في مجتمعنا خطر على الأمن القومي. وهو تعبير دقيق ومهم رغم أن الجريدة لم تشر إلى السياق الذي وردت فيه، إلا أن صاحبنا لم يبين لنا لماذا أطلقت حملة الكراهية في الوقت الراهن؟ ومن يقف وراءها؟ ومن يتولى بثها والترويج لها؟ صحيح أن المنابر التي تتبنى تلك الحملة ليست فوق الشبهة والوجوه التي تسوقها لها رصيدها المعتبر من عدم الاحترام وسوء السمعة، إلا أنه من المهم للغاية أن تسلط الأضواء على خلفية المشهد لكي نعرف بالضبط من صاحب المصلحة في بث تلك السموم وزرع الفتنة في المجتمع بما يؤدي إلى تمزيق أواصره وشل قدرته على النهوض، فضلا عن التقدم، وذلك هو الهدف النهائي لأي خطر يهدد الأمن القومي لأي بلد.
إن الوحش في هذه الحالة لا يصيب الآخر فقط، ولكنه يسمم الأجواء ويلوث الإدراك العام بحيث يحول المواطنين العاديين إلى وحوش صغار وقنابل موقوتة، مشحونة بالكراهية، الأمر الذي يقسم المجتمع إلى ميليشيات متخاصمة ومستنفرة ويحول الوطن الواحد إلى معسكرات متحاربة يتأهب كل منها للانقضاض على الآخر وإفنائه. وما لا يقل خطورة عن ذلك أن استمرار ذلك الوضع يعد إعلانا عن فشل السلطة القائمة في الحفاظ على وحدة الجماعة الوطنية وعجزها عن حماية التنوع والتعدد فيها.
ثمة حلقة غامضة في خلفية إطلاق الوحش. ذلك أننا إذا فهمنا دور المنابر المستخدمة وعرفنا شيئا عن المصالح المستهدفة وأدركنا حقيقة العناصر التي تغذي السموم وتروج للحقد والكراهية، فإن علاقة هؤلاء بالأجهزة الأمنية التي عادت إلى انتعاشها مؤخرا تظل محل تساؤل تردد كثيرا على شبكات التواصل الاجتماعي، وقد أثار تلك الشكوك وقواها أن العناصر التي ترعى الوحش وتغذيه لها صلاتها التاريخية الثابتة بتلك الأجهزة. وأهمية استجلاء هذه النقطة أنها تبين لنا ما إذا كانت عملية إطلاق الوحش جزءا من سياسة الدولة أم أنها تتم لحساب جهات لها مصالحها الخاصة، أم أنها نقطة التقت عندها مصالح الطرفين.
(3)
ليس سرا أن الهدف النهائي لهذه الحملة هو القضاء على الإخوان والخلاص منهم بصورة نهائية عند الحد الأدنى والخلاص من التيار الإسلامي في مجمله عند الحد الأقصى. وهذا الهدف الكامن أعلنت عنه أصوات بلا حصر خلال الأسابيع الأخيرة، بعضها تسرع وذكر أن «الجماعة» انتهت بالفعل، وبعضها أكد أنها تلقت ضربة قاضية أخرجتها من التاريخ بغير رجعة. وبعضها ذهب إلى أن المجتمع لفظها إلى الأبد. إلى غير ذلك من التعبيرات التي تحدث بها البعض عما يتمنونه وليس عما هو حاصل بالفعل. صحيح أن الإخوان وقعوا في أخطاء عدة، وأن شعبية الحركة تراجعت إلى حد كبير في مصر، وصحيح أيضا أن أداء بعض الحركات الإسلامية في الفترة الماضية كان منفرا وليس جاذبا، لكن من الصحيح أيضا أنه على مدار التاريخ لم يحدث أن حركة عقائدية لها شعبية إسلامية أو غير إسلامية انتهت بقرار أو بإجراءات إدارية أو حملات أمنية من أي نوع. وحين تكون الحركة إسلامية في بلد متدين بطبيعته مثل مصر فإن القضاء عليها واقتلاعها بالكامل يعد من رابع المستحيلات. وهذا ليس رأيا خاصا ولكنه رأي أي باحث منصف، له علم بالسياسة أو بالاجتماع أو بالتاريخ. وهو معنى عبرت عنه كتابات عدة في العديد من الصحف الغربية وفي بعض الصحف العربية والمصرية، نعم قد تضعف الحركة وتندثر ومن ثم تختفي من الوجود، وهو ما يؤكده تاريخ الفرق عند المسلمين. ولكن ذلك يتم من خلال تآكل الأفكار التدريجي أو تعارضها مع ثوابت الشرع أو فطرة الناس، ولم يحدث مرة واحدة أن تم ذلك بقرار سلطاني أو بحملات قمعية وأمنية.
إن الجهد الهائل الذي نشهده هذه الأيام لشيطنة الإخوان لتبرير القضاء عليهم بما في ذلك الادعاء بأن الاشتباك معهم بمثابة حرب جديدة على الإرهاب، لو بذل عُشره لاحتوائهم وتشجيعهم على مراجعة أخطائهم وتصحيح علاقتهم مع المجتمع بمؤسساته المختلفة، لكان ذلك أجدى وأنجح وأقرب إلى تحقيق المصلحة العليا للبلد. ناهيك عن سوء التقدير والتعبير في استخدام مصطلح الحرب على الإرهاب الذي أريد به دغدغة مشاع الغربيين. ذلك أن الحرب الوهمية التي استخدمت نفس المصطلح في التجربة الأمريكية، كانت ولا تزال أفشل حروبها، ولم تحقق الهدف منها رغم مضي نحو عشر سنوات على انطلاقها. فضلا عن أن كثيرين يعتبرون أنها عممت الإرهاب في العالم ولم تقض عليه.
أدري أن ثمة قائمة طويلة من الاتهامات إلى الإخوان سواء في عهد الدكتور محمد مرسي أو بعد انقلاب 3 يوليو، ينبغي أن تخضع وقائعها لتحقيق نزيه لكي يحاسب المسؤولون عنها. ولا أعرف إن كان ذلك بات ممكنا الآن أم لا، ثم إننا لم نسمع صوتهم فيما نسب إليهم من ادعاءات. علما بأن كل ما تلقيناه حتى الآن ظل محصورا في التقارير الأمنية، التي على أساسها أجريت المحاكمات عبر وسائل الإعلام وعلقت المشانق في فضاءاتها.
(4)
على عكس ما يتصور كثيرون أو يتمنون، فالمشكلة بدأت ولم تنته. أو عند الحد الأدنى فإنها بصدد الدخول في منعطف جديد أشد خطرا. ذلك أن ما جرى طوال شهر يوليو من الصعب نسيانه أو طي صفحته بسهولة. ليس لدي ما أقوله عن حوادث التخريب التي وقعت خصوصا حرق الكنائس واقتحام أقسام الشرطة، أو عمليات القتل والتعذيب التي تحدثت عنها وسائل الإعلام. وقل ذلك عن أحداث الاتحادية وغيرها من النوازل التي حلت في عهد الدكتور مرسي. لأن تلك الوقائع لم تحقق ولم نعرف من الفاعل فيها، وكل ما بين أيدينا الآن هو ادعاءات أمنية وأصداء إعلامية، تخدم سياسة الإقصاء والاجتثاث بأكثر مما تخدم الحقيقة.
الوحش الذي استيقظ فينا كان أداؤه دمويا خلال شهر يوليو، وتمثل في سلسلة من المجازر التي كانت حصيلتها ثلاثة آلاف قتيل وعشرة آلاف مصاب منهم 7 آلاف إصابتهم خطرة وبعضهم على وشك الموت. وهذه هي الأرقام التي سجلتها نقابة الأطباء، واعتبرتها حدودا دنيا مرشحة للزيادة، لأن هناك قتلى ومصابين لم يتم التعرف على هوياتهم ولم تسجل بطاقاتهم. وحسبما فهمت فهناك ضغوط أمنية على وزارة الصحة والمستشفيات لحجب المعلومات الخاصة بالقتلى والمصابين. هذا الملف الدموي يخضع الآن لعملية توثيق قيل لي إنه حافل بالمعلومات الخطيرة والمفاجآت الصادمة، التي تحتاج بدورها إلى تحقيق نزيه يعرف الرأي العام بالمدى الذي وصل إليه الجنون وعبر عنه الوحش في تلك الفترة.
لا أتحدث عن محاسبة المسؤولين عن تلك المذابح، خصوصا أن ذلك ملف ملغوم يتعذر فتحه في الوقت الراهن، وإنما سيترك أمره للتاريخ عله يكون أكثر حيادا وإنصافا. لكني أتحدث عن شلال الدماء التي تدفقت غزيرة خلال تلك الفترة، ربما يمكن أن تستنبته وترويه. بطبيعة الحال فإن أحدا لا يتمنى أن تطلق تلك الدماء جولة جديدة من العنف تدخلنا في جحيم الحالة الجزائرية وعشرية الموت السوداء التي خيمت هناك في تسعينيات القرن الماضي، لكن أحدا لا يستطيع أن يضمن أن ذلك لن يحدث وأن وحش القتل لن يولد لنا وحش الثأر، الذي أرجح أن يكون جنينا في الوقت الراهن.
المثير للدهشة أن ثمة تجاهلا لذلك الملف وإنكارا له، حيث لا أرى جهدا من أي نوع يبذل للتعاطي معه وتجنب تداعياته المخيفة التي تهدد السلم الأهلي، وتهدد الأمن القومي في الوقت نفسه، الأمر الذي يسلمنا إلى مجهول يحفل بمختلف الشرور التي تخطر أو لا تخطر على البال.
لقد أعلن رسميا أن رئاسة الجمهورية سوف تشكل لجنة لتقصي حقائق ما جرى في مذبحة الحرس الجمهوري، ولكن اللجنة لم تر النور. وفي خريطة الطريق التي أعلنها الفريق عبد الفتاح السيسي في 3/7 أعلن عن تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وممثلة لمختلف التوجهات، ورغم مضي أكثر من خمسين يوما على ذلك الإعلان، فإن اللجنة بدورها لم تر النور.
ليس عندي تفسير لتجاهل هذه المسألة، وأرجو ألا يكون ذلك التجاهل راجعا إلى تنامي نفوذ تيار الاستئصال في دوائر السلطة الذي يعول على الحل الأمني وينحاز إلى الاقتلاع والإبادة. وإلى أن تنجلي الحقيقة في هذا الشأن فإن الوحش سيظل يكبر ويزداد توحشا. ولن تستغرب إذا استحضر وحوشا أخرى تملأ الغابة التي صرنا من سكانها