يلاحظ لويس ممفورد (كتاب المدينة على مر العصور) أنه عندما فشل الإغريق في تحويل رجل الأعمال إلى مواطن حولوا المواطن في النهاية إلى ما هو أسوأ من رجل الأعمال. فقد صار أولاً الفاتح والمستغل المتغطرس، ثم التابع الخاضع ومعلم الصغار الذليل والمتسول… حتى أصبح اسمه علماً على المذلة والمهانة بين الرومان على رغم إعجابهم بقدماء الإغريق ومحاكاتهم إياهم. وهو مثال يصلح لفهم وتقدير الانفصال القائم اليوم في عالم العرب بين تشكلاتهم السياسية والاجتماعية وبين متطلبات تحسين حياتهم وعلاقاتهم المفترضة.
ثمة غياب شامل وكاسح في دول العرب ومجتمعاتهم للتشكل الاجتماعي والاقتصادي الملائم أو المستجيب لمتطلبات العلاقة بين المجتمعات والأفراد والسلطات والأسواق بما هو (التشكل) الممارسة والسلوك في الحياة اليومية والعمل والعلاقات والقضايا والاحتياجات الأساسية، كما هو أيضا غياب للقيم العليا التي تدور حولها السياسة، الحريات والعدالة، ويستبدل بذلك خطاباً متعالياً ومنفصلاً سواء كان خطاباً سلطوياً أو نخبوياً في التأييد للسلطات أو معارضتها، ويشمل ذلك جميع التيارات والأطياف السياسية والفكرية.
في خطابها المتعالي فإن النخب السائدة، قيادات سلطوية واقتصادية أو تيارات سياسية، تعكس فشل الدول والمجتمعات في بناء المواطنة. يحدث ذلك في الهزائم والاستجابة الفاشلة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، كما يمكن أن يحدث أيضاً في العجز عن الاستيعاب والتوظيف الإيجابي للتقدم والثراء الاقتصادي، وبدلاً من الانشغال بالمتطلبات الأساسية والضرورية لتحسين الحياة تنساق المجتمعات وتشاركها النخب بسرور في التعلّق بأفكار سامية متعالية تدرك أنها لا يمكن أن تحل في الأداء السياسي والاجتماعي اليومي، كما لا يمكن أن تكون محركاً للمؤسسات والسياسات والجماعات، وبدلاً من مراجعتها وملاحظة فشلها فإنها تنشئ رموزاً وقيادات ومجموعات متعالية هي أيضاً، تصير النخب هي الدين أو الوطنية أو المدنية أو الديموقراطية أو التقدم، وليس من صواب سواها، ثم إنها تشمئز من كل فكرة أو مجموعة أخرى، ليس ما سواها سوى خيانة أو كفر أو تخلف. وأسوأ من ذلك أنه لم يعد ممكناً محاسبتها على فشلها وتقصيرها. سيكون ذلك عدواناً على الدين أو الأوطان أو التقدم والتنوير!
إن السؤال الأساسي والبديهي الذي يدور حوله تشكيل الجماعات هو ما الطبقات والمصالح التي تمثلها وما التراث ووعي الوجود الطبقي الذي تعكسه في أدائها وبرامجها. وعلى هذا الأساس يمكن ببساطة تقييم السلوك السياسي والاجتماعي والاقتصادي للنخب والمؤسسات التي تديرها، ومحاكمة الخطاب الذي تقدمه. وفي وصفهم لبرامجهم وسياساتهم أو تصنيف أنفسهم بالقول إسلامي أو مدني أو تقدمي أو ديموقراطي فإن النخب والتيارات السياسية تؤكد انفصالها وعشوائيتها كما عجزها عن وعي ذاتها فأن يتسمّى حزب أو تيار بالإسلامية أو لحرية أو المدنية أو الديموقراطية أو التقدمية، لا يعني إلا على سبيل الميتافيزيقيا أنها أحزاب تعبّر على نحو يفترض وجود العكس والتنافس معه، الإسلام أو الحرية والديموقراطية والمدنية. هل يعني الإسلاميون مثلاً أنهم وحدهم مسلمون وأن غيرهم كافر، وأنهم يتنافسون في الانتخابات وإلى الاقتراع بين الإسلام والكفر، وكذا «التقدميون» هل يتصورون أنهم يتنافسون مع المتخلفين؟ وهل يتصور الديموقراطيون أنهم يخوضون الانتخابات في مواجهة غير الديموقراطيين المفترض أنهم بطبيعة الحال يتقدمون إلى الانتخابات لمحاربة الديموقراطية؟ وبالطبع، فإن المدنية والتقدم والديموقراطية قيم عليا جميلة، لكنها مثلها مثل الحريات والعدالة والكرامة، قيم ومثل عليا تجمع بين جميع الأمم والمواطنين والتيارات، وليست مؤشراً يتميز به تيار أو مرشح عن غيره، كما يقال على سبيل المثال ليبرالي أو محافظ أو وسطي أو يساري أو علماني. والتسمي بالقيم العليا فكرة جميلة أيضاً، لكنها تسميات لا تعكس اتجاهاً متميزاً أو محدداً.
لقد وضعنا لويس ممفورد في زاوية حرجة ومؤلمة، ففي مثاله عن الإغريق يجعلنا نتنبأ بأن النخب والاتجاهات الأنيقة والمتعجرفة والواثقة بصوابها تحول نفسها ومجتمعاتها إلى أسوأ ما يمكن تخيله: المثال الإغريقيّ!