أردت في البداية تحويل هذا العنوان إلى جملة واحدة بلا فواصل، كأن أكتب كان ترامب في صيدنايا، مضيفاً حرف الجر كي يستقيم المعنى.
لكني عدلت عن الفكرة لسببين:
الأول هو أن ترامب لم يكن في صيدنايا بل كان في الرياض. وعلى الرغم من أنني استطيع التلاعب بدلالات الفعل الماضي الناقص، وأقول إن فعل كان ناقص، وبالتالي فهو لم يكتمل، وهذا يسوّغ افتراض زيارة لم تحصل، لكنني لا أريد أن أمزّق المبنى عبر شدّه إلى معنى يبدو مفتعلا.
الثاني هو أنني استخدم كلمة كان للاشارة إلى المدينة الساحلية الفرنسية التي تشهد مهرجانها السينمائي، حيث مشت وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية على السجادة الحمراء بردائها الشهير، فكلمة كان هنا ليست فعلاً بل اسمٌ، وهو اسم علم أعجمي وممنوع من الصرف.
لكن العلاقة بين المكونات الثلاثة لهذا العنوان أكثر عمقاً من مجرد سطح لغوي يحتمل التأويل. فنحن نشهد ثلاثة أحداث مترابطة تجري على شاشة الحياة السياسية، وتقوم بحجب عذابات الضحايا السوريين وألم الأسرى الفلسطينيين وانهيار نظام القيم في مجتمعاتنا العربية البائسة.
لقد أتقن المستبد السوري لعبة مفاجأة جمهور المتفرجين بقدرته العجيبة والمتجددة على ارتكاب فنون القتل والتعذيب بلا أي رادع. فالنظام الذي استورد أسلوب تعذيب متوحش عرف تحت اسم «الكرسي الألماني»، تبنى الأساليب النازية في ممارساته المستمرة منذ أربعة عقود. وكان لا بد للكرسي الألماني من أن يقود إلى محرقة سجن صيدنايا، حيث بنى النظام فرناً لحرق جثث السجناء.
مرت محرقة صيدنايا في شكل عابر في وسائل الاعلام العربية والعالمية. اذ لم يعد هناك أي معنى للتغطية الاعلامية سوى سادية الفرجة على الضحايا. فحين يتم القتل بالكيماوي والبراميل المتفجرة بشكل منهجي، من دون وجود قرار بردع الوحش، فان الاعلام يصير تكديساً سادياً للصور.
حين نتكلم عن المحرقة، فإن الكلمة تحيل إلى المحرقة اليهودية، الهولوكست، وهي واحدة من أكثر الجرائم وحشية في التاريخ. لذلك فاجأت السيدة ماري ريغيف، وزيرة الرياضة والثقافة في إسرائيل جمهور مهرجان كان، بطلتها المتعجرفة، وردائها الطويل الذي رسم في أسفله صورة لمدينة القدس في الذكرى الخمسين لـ»تحريرها وتوحيدها». أنا لست خبيراً في الأزياء كي أقيّم هذا الفستان الذي جعل من الكبرياء إحدى صفات الوقاحة، لكنني أعجب من انقلاب الأزمنة، فإسرائيل التي تدّعي انها وريثة ضحايا المحرقة النازية تصير جلاداً، وتتفاخر بالاحتلال والتطهير العرقي وتصر على تقليد جنوب افريقيا في بناء نظام «ابارتايد» شامل. لقد تكفل الناشطون والناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي بالسخرية من هذا الثوب، واللعب بصورته بأشكال شتى، غير أن ما قدمته الوزيرة الإسرائيلية، التي شنت حملة شعواء على قصيدة محمود درويش «بطاقة هوية» وقارنتها بكتاب «كفاحي» لهتلر، يتفوق على الخيال، فخيال المجرمين والقتلة هو أكثر خصوبة من خيال الفنانين، لأنه يذهب الى اعماق عربدة الوحشية الانسانية.
السيدة ريغيف لم تمشِ في كان على السجادة الحمراء، بل مشت على الألم الفلسطيني والعربي الذي يتناوب الاستبداد والأصولية والاحتلال على إخراس الفلسطينيين. تباهت بإذلال القدس، ولم تجد من يطردها من المهرجان.
غير أن الحدث الأكبر الذي يحتل الصدارة هو القمم الترامبية في الرياض التي تحتفي بالسيد الأمريكي في حشد لا سابق له لزعماء العالمين العربي والاسلامي، ووسط صفقة السلاح الكبرى التي ستنعش الاقتصاد الامريكي بمليارات الدولارات.
أغلب الظن ان ترامب، الذي يتقن فن العرض التلفزيوني، سوف يستمتع بمشاهدة صورته المنعكسة على وجوه زعماء يلوذون به، متجاهلين كراهيته للعرب وعنصريته ضد المسلمين، لأنهم لم يعودوا قادرين سوى على الخوف من عدو واحد هو ايران، عبر اشعال نيران الصراع الطائفي السني-الشيعي.
رقص ترامب العرضة بالسيف في قصر المربع مع العاهل السعودي وقبض 110 مليارات دولار دفعة أولى على صفقة سلاح بقيمة 350 مليار دولار، والتقى 55 زعيماً من العالمين العربي والاسلامي كي يخطب فيهم، معلناً بداية فصل جديد من مسرحية استنزاف العرب بالعرب.
بالطبع لن يجرح الملياردير الامريكي آذان ضيوفه بالطلب منهم اطلاق سراح الشاعر الفلسطيني أشرف فياض، الذي يقضي عمره بين جلد وسجن بسبب شعره الذي اتهم بعدم احترام الدين، كما لن يحرج العرب ضيفهم الامريكي باشارة ولو عابرة إلى الاضراب عن الطعام الذي يخوضه الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. لا ترامب معني بحقوق الانسان كي يشير ولو بشكل عارض إلى الشاعر السجين، ولا زعماء العرب معنيون بفلسطين وأسراها. الطرفان يريدان إنجاز صفقة مالية-دموية. العرب مستعدون للتحالف مع إسرائيل، وترامب مستعد للضغط، ولو بشكل ناعم، على الإسرائيليين، من أجل استئناف مفاوضات العقم.
لا يملك ترامب، الغارق في فضيحته الروسية، متسعاً من المناورة كي يزور سجن صيدنايا، فالمسألة برمتها لا تعنيه، فليحرق الغوييم الغوييم، على رأي بيغن تعليقاً على مذبحة شاتيلا وصبرا، التي لم ير فيها مؤسس الليكود سوى أغيار يقتلون أغياراً متجاهلاً دور وزير دفاعه آرييل شارون في المذبحة.
في المقتلة السورية الرهيبة انكشف رياء خطاب حقوق الإنسان في العالم، فسوريا اليوم هي فضيحة العالم، وفي نكبتها ومحرقتها يعمّ الخزي العالم بأسره. انه حلف مستبدين في مواجهة مستبدين، وجوع إلى السلطة وصورة السلطة، ونظام عربي يحتضر.