بعدما وصفت منظمة «العفو الدولية» سجن صيدنايا بـ «المسلخ البشري» في تقريرها الأخير، تأتي اليوم تقارير جديدة لتضيف نجمة إلى خدمات القتل والإبادة التي يقدمها النظام السوري لنزلائه في تلك البؤرة المظلمة، فتكشف عن وجود محرقة يتم فيها التخلص من جثث المعتقلين في شكل شبه يومي. لا تزيد الصدمة والفجيعة على الواقع شيئاً. فقد باتت عبارة «الهولوكوست السوري» ملازمة للوقائع الدائرة على الأرض في السنوات الأخيرة، وإن لم ترق التسمية الى مستوى الدليل الجنائي القاطع في حالات كثيرة. وإذ انشغلنا وانشغل كثيرون بالبحث في دقة مصطلحات كـ «الإبادة الجماعية» و «الهولوكوست» وما إذا كان بشار الأسد يشابه هتلر أو يفوقه إجراماً، مضت آلة القتل السورية في اجتراح الحلول لنفسها، والاستفادة من الوقت الضائع والهوامش الكثيرة المتاحة لها للإفلات من العقاب ومن أي محاسبة محتملة.
أما الآن، فقد بات هناك دليل دامغ للمشككين والباحثين عن الدقة العلمية: ثمة محرقة في سجن صيدنايا. ماذا بعد؟
قد تبدو للوهلة الأولى تلك الطريقة في التخلص من آثار الجرائم المرتكبة في السجون السورية تسلسلاً طبيعياً لمسار الأمور. حتى أن البعض تساءل لمَ المفاجأة والاستغراب على اعتبار أن الموت، أياً كانت طرقه يبقى أهون على الضحايا من مرّ العذاب الذي يكابدونه في الأقبية الأسدية. وإنه إذّاك لا فرق بين من يموت قصفاً، أو قنصاً أو جوعاً أو تعذيباً… أو أخيراً حرقاً، إلا بدرجة العذاب التي تسبق رصاصة الرحمة تلك، أياً كان شكلها. وذلك لا شك مفهوم بعد الإحباط واليأس من عجز المجتمع الدولي وتلكؤه عن القيام بأدنى واجبات حماية المدنيين وإحالة المجرمين أقله الى التقاعد السياسي، إن لم يكن محاسبتهم أمام قضاء نزيه وعادل.
لكن لا. ثمة جديد هذه المرة، وهو وجود محرقة. ذلك ليس بالتفصيل العابر ولا هو مجرد شكل آخر من أشكال الموت. لقد باتت لنا محرقتنا. أول محرقة عربية (مثبتة) تعمل بفاعلية عالية وبوتيرة شبه يومية، في وضح النهار وبمحاذاة مناطق مأهولة وسياحية. تنفث أبخرة الجثث المتفحمة في ذلك الفضاء الأهلي، معتمدة على احتمال أن تختلط الروائح المريبة بعطن مزارع الدجاج القريبة. هكذا، تعيش محرقة بموازاة حياة شبه طبيعية، كما عاشت على هذه الشاكلة مقابر جماعية ومعتقلات منذ حكم الأسد الأب وحتى اليوم. إنها صورة إضافية لذلك «الشر العادي» المرافق للفظاعات التي توصف في كل مرة بأنها «غير مسبوقة». سوى أن الوسيلة هذه المرة لا تقل أهمية عن الغاية نفسها.
والحال أن المحرقة بذاتها ليست أداة القتل. ووفق التقارير التي تسربت أخيراً من ذلك المسلخ، وقبلها تقارير «سيزر»، فإن قتل المعتقلين سابق على التخلص من جثثهم بوقت قد لا يكون وجيزاً، ولعله جاء حلاً سريعاً ومتسرعاً في آن، بعدما باتت المقابر الجماعية خطراً محدقاً بالنظام، ودليلاً قابلاً للوصول اليه. وكذلك هي تقارير الوفاة الصادرة من المعتقلات والمستشفيات والتي توثق آلاف الحالات من الموت بـ «الجلطات الدماغية» في أيام متقاربة جداً، والتي شكلت في مرحلة ما إجراء إدارياً داخلياً للتأكد من «تنفيذ المهمات».
أما إحالة الأجساد الى رماد، فوسيلة مضمونة لإخفاء أدلة الجريمة، ومحو علامات التعذيب وإغلاق الملفات مرة وإلى الأبد. وهي الى ذلك، تلغي إمكان إقامة قبور للضحايا، وشواهد تحمل أسماءهم وقد تتحول مزارات لذويهم ولأجيال قادمة. إنها تخنق الأسئلة الملحة حول ظروف القتل، ومكانه، ومرتكبه، والأهم من ذلك التهمة التي دفعت اليه. فالمحاكمات الصورية التي كشفتها التقارير أيضاً، والتي لا تستمر لأكثر من ثلاث دقائق، تؤشر الى نفاد صبر حيال حياة الأشخاص. هناك من يتهافت على إرسال المزيد من الناس للقاء حتفهم بطريقة بيروقراطية باردة. ثم جاء من قرر أن يمعن أكثر في التخلص منهم عبر حرق جثثهم، في وقت لا يزال غير معروف متى اعتمدت تلك الطريقة وإن كانت شائعة في المعتقلات السورية أو هي استثناء في صيدنايا.
وإذا كانت المحارق ارتبطت حتى اللحظة بالحقبة النازية ومعسكرات الموت في أوشفيتز وغيرها، واعتبرت الى حد بعيد ثمرة الثورة الصناعية ومكملتها في آن، فقد ذهبت محرقتنا خطوة أبعد. فمعلوم إن قطارات الموت النازية حملت الضحايا في رحلة الخنق بالغاز على أمل الإنقاذ. هكذا، «غرر» بالمعتقلين اليهود وتمّ إيهامهم بأن تلك هي رحلة الخلاص والانعتاق ليأتي الحرق لاحقاً.
وكان النازيون يدركون أن وتيرة القتل تعتمد على قدراتهم في التخلص من الجثث بكفاءة وفاعلية بحيث يحدد عدد الجثث التي يمكن حرقها في غضون 24 ساعة، عدد الأشخاص الذين ينبغي قتلهم بالوتيرة نفسها. وذلك ما سمي بـ «القتل الصناعي».
أما في الحالة السورية، وعدا عن أن أحداً لم يكترث بمنح ذرة أمل للمعتقلين قبل تصفيتهم أو تركهم يموتون من تلقائهم تحت التعذيب، فإن القتل بذاته لم يكن وحده المرتجى، وإنما هو الإفناء بعد الإماتة. وذلك واقع جديد لا مناص منه. وهو الى حد بعيد، ما يجعل المحرقة السورية ممعنة في الرغبة بتسفيه ضحاياها فوق جعلهم ضحايا أصلاً. وهو دأب النظام في معاملة السوريين علناً وبلا مواربة منذ أن انتفضوا عليه انتفاضتهم الأخيرة في 2011. فإذا كانت العبارة الشائعة تقول إن فلاناً ثمنه رصاصة، للدلالة على بخس حياته، فقد جاء النظام الأسدي ليقول لا، بل ثمنكم عندي أقل من ذلك بكثير. يكفي أن أحشو براميل وخزانات بفضلات لأقتلكم. والمحرقة المكتشفة أخيراً في صيدنايا، تأتي بهذا المعنى تتمة لبراءة اختراع البراميل، ودليلاً إضافياً على الإبادة البدائية في وحشيتها والتي يحرم السوريون كل يوم من حق مقاومتها.