في ظل قانون طوارئ، يتوجه الناخبون الأتراك اليوم الى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في أهم استفتاء شعبي على الدستور، قد يطوي صفحة النظام البرلماني الى غير رجعة ويمهد لنظام رئاسي بصلاحيات شبه مطلقة، فيما يشعر كل ناخب بأن كلمة منه، مجرد «نعم» أو «لا»، قد تحدد مصير البلاد ومستقبلها.
الاستقطاب في ذروته، ولا تختصره استطلاعات الرأي الأخيرة التي حددت الفارق بـ 49 و51 في المئة لمصلحة المؤيدين للتعديلات الدستورية وإنما يتخطى ذلك الى صدع عميق في المجتمع بدأ يتخذ اشكالاً عنفية ليست بلا دلالة ولن تتوقف بالتأكيد عند فرز الأصوات. فمن عراكات في المقاهي ووسائل النقل العام تستخدم فيها آلات حادة ضد من يفترض إنه سيصوت بـ «لا»، إلى دعوات على وسائل التواصل الاجتماعي بــ «استباحة نسائهم كسبايا حرب»، وصولاً إلى ابتزاز سكان المناطق الشعبية بوقف المساعدات والرعاية الصحية مروراً باستخدام الجوامع ودار الإفتاء كمنصات ترويج، وغير ذلك الكثير الضغوط على مستوى الشارع، يبقى إن الخطاب الرسمي في رأس الهرم لم يقف عند سقف أو حد. فالحملات الدعائية التي احتدمت في الأسبوع الأخير لم توفر تهمة «خيانة» و «تآمر مع الانقلابيين» أو معاداة الأمة وغيرها إلا وأكالتها على رموز المعارضة وجمهورها على السواء، حتى أنه تم التلويح بنشر تسجيلات إباحية قد تستخدم للتشهير في أي لحظة.
وفي المقابل ذهبت المعارضة حد اتهام حزب «العدالة والتنيمة» الحاكم بالسعي الى تقسيم البلاد وإحلال نظام «فيديرالي» يمنح بعض المناطق حكماً ذاتياً، تمهيداً لسلام مع «الانفصاليين الأكراد»! وهو على صعوبة تصديقه، احتفي به أيضاً بصفته «كشف لخيوط مؤامرة تحاك بالشراكة مع الولايات المتحدة» وتعيد علاقات البلدين الى سابق عهدها في موازاة قطع كلي مع القارة العجوز. وفي ذلك لعب على وتر يساري «معاد للإمبريالية» ولا يزال حاضراً في أوساط كثيرة.
والحال إن تلك عينة بسيطة من التراشق الكلامي اليومي بين المعسكرين، الذي لا يمنح أياً من جمهورهما فرصة التأكد من المزاعم أو التثبت من صحة الأقوال. فقد انزلق الخطاب السياسي العام الى سوية شعورية لا مكان للمحاجّة المنطقية فيها.
وإذ يطلق كثيرون على ما يجري وصف «ثورة ناعمة» قوامها صناديق الاقتراع، يتذكر آخرون الاستفتاء الذي شهدته تركيا بعد عامين من الانقلاب العسكري في 1980. فالأجواء تذكر بتلك الحقبة التي استخدمت فيها ايضاً تهم الخيانة من الجنرال كنعان ايفرين، زعيم المجلس العسكري، مورس التضييق الإعلامي والابتزاز العاطفي واستثيرت المشاعر القومية، وتم التحذير من الفوضى العارمة في حالة رفض الدستور الجديد.
وقد يقول قائل إن ذلك الهذيان كله هو من قبيل التخبط ومخاض ما قبل الولادة، ومحاولات وإن بائسة لكلا الطرفين في شحذ الهمم واستمالة الأصوات المتأرجحة التي يبدو إنها آخذة في الاتساع. ذاك أن تراجع المؤيدين لمعسكر «نعم» من نحو 54 في المئة قبل أقل من شهرين، إلى 51 في المئة بالامس وفق الاستطلاعات، مع شبه ثبات في معسكر «لا»، يشي أولاً بأن الكتلة المقررة اليوم ستكون الكتلة الرمادية أو المتأرجحة التي لا تنتمي الى صلب الأحزاب وإنما تدور في هوامشها.
وذلك يعني أيضاً بأن الفوز، وإن حصل، لن يكون مريحاً ولا هو تفويض كامل لحزب «العدالة والتنمية» بقلب الأمور رأساً على عقب، علماً أن الأخير قد يكتفي به لإجراء التغييرات المرجوة. فهو عملياً لا يحتاج لأكثر من النصف زائد واحد لإطلاق مسيرة تغيير النظام. لكن ذلك بحد ذاته، أي هامش التأييد الضئيل، هو تحديداً ما يقلق الرئيس ويثير غضبه. فبحسبه، ما أنجزه لتركيا من ازدهار ونمو اقتصادي خلال فترة حكمه، يفترض أن يمنحه ثقة شعبية أوسع، لا أن يقابل بنكران الجميل.
لكن الواقع إن الإمعان في توسل خطاب شعبي وسياسي حول الاستفتاء من تصويت على مشروع وطني يغير وجه البلاد للأفضل أو للأسوأ، الى مجرد اختبار لشعبية الرئيس، رفع هوامش الخطر وجعل الأصوات المترددة هي التي تتحكم بقرار اليوم. فهناك في داخل «العدالة والتنمية» من لا يؤيد ذلك الميل الجارف الى «شخصنة» الحزب وإلغاء التيارات المتعددة فيه. وإلى ذلك، رشح أكثر من امتعاض من اواسط المتعلمين والمثقفين «الإسلاميين»، لاستسهال رشق أي منتقد للسياسة العامة بتهم الخيانة والعمالة.
وأما الدوائر الاقتصادية وفئات رجال الأعمال والمقاولين الذين انتعشت ارصدتهم في السنوات العشر الماضية بفضل سياسات الانفتاح وتشجيع الاستثمار والتبادل التجاري والسياحي التي انتهجها فعلياً حزب «العدالة والتنمية»، فتعيش اليوم قلقاً فعلياً بسبب الركود وتراجع قيمة الليرة والسياسات العكسية التي بدأت تعطي نتائج سلبية. فإذا كان شركاء تركيا من الأوروبيين لم يتخذوا بعد اي اجراءات اقتصادية فعلية، ولا قطعوا حتى اللحظة الجسور بانتظار نتائج الاستفتاء، يبقى إن «وعداً» رئاسياً باستعادة تطبيق عقوبة الإعدام بعد الفوز، من شأنه أن يحرق السفن وينسف جهد عقود من اللهاث للحاق بالقطار الأوروبي، فيدير وجه تركيا مرة وإلى الأبد نحو الشرق المأزوم.