مما لا شك فيه أن التربية وظيفة أسرية الزامية حتمية خاصة، واستثمار مجتمعي عام، لذا هي من أهم ما يجب أن نركز عليه ليكون مشروع بناء ثقافياً حضارياً أخلاقياً وإنتاجياً يرتقي بالشعوب وأوطانها.
ولأن التربية ككل شيء في الحياة قابلة للتغير والتبدل عبر الأزمان، فإن المتخصص المتابع لعوامل التغير فيها يجد أن الأسر الآن واقعة في حيرة بين اتباع مدرسة التربية الكلاسيكية القديمة التي اعتمدت على هيبة المؤسسة التربوية التي اتخذت من الصرامة منهجاً معتمداً في تربية الأبناء، لتخرج جيلاً قادماً مؤهلاً لتحمل المسؤولية، ذا فعالية إنتاجية نافعة يستطيع الاعتماد على نفسه ويستطيع من حوله ومجتمعه الاعتماد عليه، وتستطيع أسرته في كبرها عندما يضعفها الزمن أن تراهن على قوته، وعلى قيمة البر العليا التي تربى عليها ليكون سندها ومعينها بعد الله.
وبين المدرسة التربوية الحديثة التي تنادي بنسف كل المبادئ التربوية التقليدية بانضباطيتها وصرامتها، فنادت بمصادقة الأبناء وإزالة حاجز الهيبة الأسرية واستبدال طريقة الثواب والعقاب بأساليب أكثر «عصرنة»، مع منح الأبناء حقوقاً كثيرة كانت من المحرمات في فصول المدرسة الكلاسيكية القديمة.
من هذا المنطلق انتقد العالم الأوربي الشهير مشائيل فينترهوف معاملة الوالدين لأطفالهم، كما لو كانوا أشخاصاً ناضجين، بزعم إعطائهم الحرية لتنمية ذاتهم من دون أي قيود خارجية، واكتفاء الوالدين بدور الرفيق والصديق، بدلاً من المرشد والمربي.
وقال إن النضج النفسي والاجتماعي للطفل لا يتحقق إلا من خلال وجود علاقة وارتباط قويين بالوالدين، يتعلم من خلالها الطفل الكثير، وتجعله يتمتع بالتوازن النفسي، وترشده إلى الطريق الصحيح، وهي عملية نفسية لا تتحقق من خلال الفهم بل من خلال المعايشة.
لكن المشكلة أن الكثير من الأهل يعتقدون أن الأفضل أن يعاملوا أطفالهم باعتبارهم شركاء مساوين لهم، وأن رأيهم يجب أن يكون نابعاً منهم وله وزن رأي الوالدين نفسه، وهو الأمر الذي يطالب الطفل بما يفوق قدراته، لأنه يفتقد الخبرة الحياتية، ولا يستند إلى ركائز معينة، يبني عليها القرار الذي ينتظره منه الوالدان.
ويرى أن من أسباب هذا التحول في التربية هو شيوع المعرفة من خلال الإنترنت، وبالتالي يعتقد الأهل ويعتقد الأطفال والشباب أنهم متساوون في المعرفة، وأنهم يستطيعون الحصول على القدر نفسه من المعلومات من خلال البحث في الإنترنت.
كما أن فيضان الأخبار الذي يحيط بالإنسان حالياً يجعله عاجزاً عن التعامل معها، الأمر الذي يتسبب في الاضطراب النفسي، والشعور بعدم القدرة على القيام بأي شيء، فيميل الوالدان إلى أن يضعا للطفل بدائل وخيارات عدة، ليختار منها ما يشاء، بدلاً من أن يقوما هما بعملية الاختيار، وحتى الكبار أصبحوا يعيشون اللحظة فقط، ولا يمتلكون النضج النفسي الكافي للتربية، فيعجزون عن التوصل إلى قرار صحيح، وبالتالي لا يملكون القدرة على تعليم الطفل كيفية الربط بين الأحداث الحالية مع الأحداث الماضية، وما يتوقع حدوثه في المستقبل.
ويرى فينترهوف أن كل المجتمعات التي تدمن الإنترنت، تعيش اللحظة الحالية فقط، وهو ما ينعكس على خياراتها السياسية، ومختلف جوانب حياتها، لافتقاد أفرادها النضج النفسي، وهو الأمر الذي يجب أن تسعى المدارس بالتعاون مع أولياء الأمور إلى تصحيحه، وقال إن الصبي البالغ من العمر 12 عاماً، يتبنى أفكار والديه كما هي، ولا يبدأ في الاستقلال برأيه قبل سن 14 أو 15 عاماً.
وحذر العالم النفسي أولياء الأمور من الاكتفاء بالتشجيع والإعجاب بكل ما يفعله الطفل أو الشاب، وكأنهم لا يقعون في أخطاء أبداً، ولا يحتاجون إلى تحمل عواقب أخطائهم، وقال إن الأطفال بحاجة إلى مساعدة الوالدين، مهما كانت معدلات ذكائهم مرتفعة، لأن القضية تتعلق بنقل خبرات الحياة، وطريقة التعامل مع مشكلاتها، وكيفية التأقلم مع المجتمع المحيط، بكل ما يسود فيه من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد وثقافة، وهي أمور لا يمكن اكتسابها من الحاسب.
كل المطلوب هو أن يعود الأب والأم للقيام بدورهما الأساس في التربية، وليس أن تتحول الأسرة إلى مجموعة شركاء متساوين، ليس بينهم كبير أو راعٍ، يتخذ قراراً، ويتحمل المسؤولية عن رعيته.
ولأن كلتا الطريقتين أثبتت أنها قاصرة بمفردها على احتواء كل التغيرات السريعة والمذهلة التي تحدث بالعالم بسرعة تنافس سرعة البرق فإن النظام التربوي أصبح بحاجة لإيجاد طريقة محايدة تتجاوز سلبيات كل مدرسة وتقف عند إيجابياتها، ومنها تنطلق لتكون من المرونة، بحيث تحفظ لشركة الأسرة القابضة هيبتها ومكانتها في اتخاذ القرار للمصلحة العامة، في الوقت الذي تستفيد فيه من خبرات المؤسسة التربوية الحديثة في احتواء مفرزات التغير الاقتصادي والمادي والاجتماعي ومتغيرات الحياة ككل، وتأثيرها في الأبناء.