كم كانت دقيقة العبارات التي اختارها الرئيس الإيراني الجديد الشيخ حسن روحاني في خطاب التنصيب الذي ألقاه الأحد الماضي، ثم في المؤتمر الصحافي الذي عقده الثلثاء.
فالديبلوماسي المحنك، المتصف بالعقلانية اختار هذه التعابير بعناية، في تقديم نفسه للإيرانيين وسائر العالم، حين تحدث عن «الابتعاد عن الخيال والأوهام»، وعن «الموازنة بين المبادئ والواقع» وعندما وصف اعتداله الذي أتى به الى الرئاسة بأنه «أسلوب عقلاني للابتعاد عن التفريط والإفراط».
وإذا كان العامل الأساسي الذي دفع الى تلاقي تجار البازار والإصلاحيين والعلماء في قم وجزء من الحرس الثوري الإيراني، هو التوق الإيراني الشعبي الى الخروج من الواقع الاجتماعي المزري الذي بلغه المجتمع الإيراني بفعل السياسات الاقتصادية لحكومتي الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد على مدى 8 سنوات، فإن تحالف هذه القوى مجتمعة يعود الى المراهنة على أن يحقق روحاني انفتاحاً داخلياً وخارجياً ينتشل إيران من مضاعفات انخفاض سعر الريال الإيراني بنسبة 70 في المئة، وتصاعد البطالة حتى بلغت رقماً هائلاً في بلد غني بالموارد والثروات النفطية والغازية يوازي 30 في المئة، فضلاً عن تراجع تصدير النفط الإيراني الى الخارج، على رغم عدم التزام دول عدة بالعقوبات النفطية مثل دول «بريكس» وغيرها، الى أدنى مستوياته في تاريخ الدولة الإسلامية القوية، بلغت 40 في المئة من القدرة الإنتاجية النفطية.
وإذا كان مفهوماً أن يرفض روحاني «التفريط» بحقوق إيران في إنتاج الطاقة النووية، وفي ملف التفاوض على ملفها النووي، السبب الأول للعقوبات، فقد كان طبيعياً أن يرفض في المقابل «الإفراط»، الذي مارسه أحمدي نجاد مدعوماً في معظم الأحيان من المرشد علي خامنئي و «الحرس الثوري»، التشكيل العسكري الأقوى والمهيمن على النظام السياسي. فالسياسة الهجومية التي قادها الرئيس السابق مع مراكز القرار ذهبت به الى حد توقع انهيار أميركا والغرب، من كثرة اعتداده بقدرة بلاده على تطوير قدراتها العسكرية والتكنولوجية التي جرى توظيفها في الاتجاه الحربي، في وقت يقول العصر إن التطور التكنولوجي هو وسيلة التأثير في الساحتين الدولية والإقليمية عبر القوة الناعمة قبل أي شيء.
من السهل على روحاني أن يعلن خروج بلاده بعد تبوئه الرئاسة من مبالغات نجاد، التي بلغت حد توقع أفول صعود الصين حتى، واستهزائه بقوة روسيا، على المدى الاستراتيجي. فالرجل كان يعتمد على جبروت ما ورائي، ومعتقدات دينية لم يتوانَ بعض الإيرانيين عن اعتبارها نوعاً من الشعوذة السياسية.
وإذا كان إخراج الحكم في إيران من لا واقعية نجاد هو أسهل الأمور، فإن التحدي أمام روحاني هو أن يترجم التوريات والتعابير المواربة التي استخدمها في تقديم نهجه المقبل الى واقع ملموس يغيّر الواقع الاقتصادي المزري للدولة التي كانت قيادتها تبشر بتغيير العالم وتتحدى الدول الكبرى باستعدادها للتفاهم معها على كيفية «مشاركتها في حكم العالم»، بعد أن أفرغت السياسة السابقة احتياطي خزينتها من المال الذي أُنفق منه ما يقارب 800 بليون دولار على مدى 8 سنوات، جزء لا بأس به منها على تطوير قدراتها النووية، وعلى حروبها بالواسطة وتدخلاتها في العراق واليمن ودول الخليج وفلسطين وآسيا الوسطى وأفغانستان وعلى «حزب الله» في لبنان وعلى دعم نظام الرئيس بشار الأسد (يتردد أن حجم المساعدة للأسد بلغ 7 بلايين دولار منذ اندلاع انتفاضة الشعب السوري). وهو ما حوّل الاقتصاد الإيراني الى اقتصاد ريعي في بعض جوانبه، يبادل النفط مع الصين والهند بمواد زراعية وغيرها والغاز مع تركيا بالذهب الذي انخفض سعره العالمي… إلخ. وأضرار هذه السياسات اشترك فيها المرشد والحرس مع نجاد.
الواقعية تقتضي من روحاني ألا يقطع بطريقة مفاجئة وسريعة مع كل السياسات السابقة، على رغم أن مقاربة الصعوبات تجعل منها كلها أولويات، للحد من الإفراط في الملف النووي أو في التوسع في النفوذ الإقليمي، فالمرشد والحرس لن يسمحا له بأن يحدث تغييراً انقلابياً. وعلى رغم أن الرئيس الإيراني لم يأتِ على ذكر اسم الأسد في تمسكه بثوابت سياسة بلاده إزاء سورية، وهو ما رأى فيه مراقبون تمايزاً لافتاً، فإنه من غير المتوقع أي تعديل في مساندة طهران للنظام السوري الذي تعتبر صموده مسألة مصيرية. والأرجح أن الأمر سيترك للتعاطي البراغماتي مع موازين القوى على الأرض في بلاد الشام، بالتوازي مع تحديد الأولويات: هل هي في خفض خسائر العقوبات برفع بعضها في ما يخص الملف النووي، والاكتفاء بتحسين العلاقة مع الجوار الخليجي وتحديداً السعودية من دون المشرق العربي، أم بالسعي الى صفقة شاملة، دولية إقليمية تشمل النووي والدور الإقليمي؟