بات لدينا ما يكفي من تجارب وعِبَر في ما خصّ العلاقة بين الإسلاميّين وكلّ من السياسة والسلطة. بطبيعة الحال تبقى تونس وحركة «النهضة» قادرتين على مفاجأتنا وتزويدنا بمعانٍ غير المعاني التي تجمّعت في اليد حتّى الآن. لكنْ لا يزال من المبكر إصدار أحكام نهائيّة في صدد تونس و «النهضة». أمّا وصول الإسلاميّين إلى السلطة عبر انقلاب عسكريّ (السودان) أو عبر ثورة شعبيّة (إيران) فيبقى خارج النقاش.
في هذه الغضون، يرتسم درسان مهمّان:
درس من الجزائر في 1991 – 1992، ومن غزّة في 2006، ومن مصر في 2013، على ما بينها من فوارق. الدرس هذا يقطع بخطل التصدّي العسكريّ والأمنيّ لإنجاز إسلاميّ تحقّق بوسائل ديموقراطيّة.
الدرس الثاني الذي يقابله يأتي من غزّة ما بعد 2006، ومن تركيّا في السنوات الأخيرة، ومن مصر في 2012، على ما بينها أيضاً من فوارق. الدرس هذا يجزم بفشل الإسلاميّين الذين يصلون ديموقراطيّاً إلى الحكم في أن يحكموا ديموقراطيّاً.
وضع أحد هذين الدرسين في مواجهة الآخر يؤدّي إلى قناعتين متناقضتين: الإسلاميّون (وسواهم) ينبغي بالطبع ألاّ يُضطهدوا وألاّ يُحرموا حقوقهم السياسيّة التي يتساوون فيها مع جميع الآخرين. عكس ذلك خطأ سياسي وخطأ أخلاقي في آن، والخطآن لا يعملان إلاّ على تجذير الإسلاميّين ودفعهم إلى التطرّف والعنف. لكنْ في المقابل، فالإسلاميّون (وسواهم) ينبغي ألاّ يحكموا إذا كانوا يفتقرون إلى المعرفة بأبسط معاني السياسة والديموقراطيّة. وكلّ التجارب حتّى الآن تنمّ عن أنّ الإسلاميّين يفتقرون. أبرزهم وأهمّهم، الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان، بعد أن استقرّت له الأمور واستبعد خطر الجيش، تكشّف عن مختار قرية دعيّ وجهول ومستبدّ.
التبسيط طبعاً لا يحلّ هذه المشكلة. لا التبسيط النخبويّ– العسكريّ الذي لا يزرع في التربة السياسيّة إلاّ منعهم من الحكم، فلا يحصد إلاّ الطغيان «العلمانيّ» والحروب الأهليّة في المجتمع. ولا التبسيط الشعبويّ على طريقة دعهم يجرّبون، إذ قد لا يبقى بعد تجريبهم أيّ شيء للبناء عليه. إنّهم كفيلون بجعل المجتمع قاعاً صفصفاً.
كيف يحال بين الإسلاميّين والاضطهاد، وكيف يحال ديموقراطيّاً بينهم وبين الحكم؟ إنّه السؤال الذي يستحقّ أن تنكبّ عليه عقول الديموقراطيّين العلمانيّين ممّن يريدون الديموقراطيّة والعلمانيّة سواء بسواء. لكنّ السؤال هذا يخبّئ فيه سؤالاً آخر: هل توجد في مجتمعاتنا الكتلة القادرة على ذلك؟
النقاش هذا يوصلنا إلى المجتمع نفسه، وإلى قدرته على إنتاج قوى تستطيع أن تحول بين الإسلاميّين والتعرّض للاضطهاد وبينهم وبين التحوّل إلى حكّام. وهذه القوى ليست موجودة، أو ليست موجودة بالقدر الذي تتطلّبه المهمّة.
إنّ الغرب يناقش اليوم الإعضال الديموقراطيّ في ظلّ صعود الشعبويّة، وفي مرآة ذاك الصعود. وفي أغلب الظنّ علينا أن نفعل الشيء نفسه. لكنّنا لا نملك القاعدة الشعبيّة والاجتماعيّة التي تتيح لغيرت ويلدرز وحزبه أن يخوضا الانتخابات، كما يخوضها أيّ حزب آخر، والتي تهزم ويلدرز وحزبه في الانتخابات. وحتّى في التجارب التي باتت تُقدّم على النجاح الشعبويّ، يُلاحظ أنّ 48 في المئة من البريطانيّين صوّتوا ضدّ بريكزيت، وأنّ دونالد ترامب فشل، بفارق بضعة ملايين، في كسب الأكثريّة العدديّة. هذه ليست حالنا بتاتاً. أمّا الضمانات التي يوفّرها في الغرب القضاء والصحافة والرأي العامّ والحياة الثقافيّة، فلا تزال عندنا أضغاث أحلام.
إذاً يُخشى أن يذهب التفكير، إذا فُكّر، هباء منثوراً. في أحسن الأحوال، وحتّى إشعار آخر: هناك محمّد مرسي وهناك عبدالفتّاح السيسي.