ما زال الوقت مبكراً لتقديم قراءة دقيقة لتوجهات السياسة الخارجية الأميركية للإدارة الحالية. غير أن استعادة ما قاله دونالد ترامب إبان حملته الانتخابية، ومراجعة نصوص خطبه وتصريحاته منذ انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، وفحص معايير اختياره لمعاونيه وأركان إدارته، وتحليل تصرفاته خلال الأسابيع الماضية، تتضمن معطيات تسمح بقراءة أولية للملامح العامة لهذه السياسة ورصد ما قد تنطوي عليه من أخطار وتناقضات بنيوية. وقبل أن نغوص في تفاصيل تلك القراءة، ربما يكون من المفيد أن نبدأ ببعض الملاحظات الأولية. الأولى: تتعلق بظاهرة ترامب التي تبدو جديدة تماماً على الحياة السياسية الأميركية. فلهذه الظاهرة شقان: الأول يتعلق بسمات شخصية يعكس ظاهر سلوكها أبعاداً سيكوباتية يصعب التنبؤ بردود أفعالها، والآخر يتعلق بطبيعة التيار السياسي والفكري الذي دفع بشخصية كهذه إلى قمة السلطة. ولأنه تيار متمرد على المؤسسات الرسمية الأميركية، ولا يعبر عن قوى سياسية أو اجتماعية أو فكرية متجانسة ومتماسكة، يصعب التكهن بتحولاته أو بردود أفعاله المحتملة تجاه ما قد تتخذه الإدارة الحالية من قرارات في المستقبل. نحن إذن أمام ظاهرة مركبة قد تكون لها تأثيرات عميقة على مستقبل النظام الأميركي نفسه.
الملاحظة الثانية تتعلق برؤية إدارة ترامب للمصالح الأميركية وللوسائل الملائمة للدفاع عنها. ولأن المواقف التي سبق لترامب المرشح أن أفصح عنها تبدو متطابقة إلى حد بعيد مع مواقف ترامب الرئيس، يتوقع أن تتبنى الإدارة الأميركية الحالية سياسة خارجية تبدو مختلفة جذرياً عن سياسة الإدارات السابقة، بل قد تؤدي إلى صدام حقيقي ليس فقط مع قوى دولية معادية، ككوريا الشمالية وإيران والصين وغيرها، ولكن أيضاً مع قوى حليفة، كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي ومجلس التعاون الخليجي وغيرها. الملاحظة الثالثة تتعلق بردود الأفعال المحتملة من جانب القوى العالمية والإقليمية التي قد تتضرر أو تستفيد من هذه السياسة. ولأن ترامب رجل أعمال براغماتي وليس رجل سياسة من النوع العقائدي، فليس من المستبعد أبداً أن تعكس التوجهات التي أفصح عنها حتى الآن سقف مطالبه الأولية قبل أن يشرع في التفاوض حول الصفقات الحقيقية التي يسعى الى إبرامها. وإذا صحَّت هذه الملاحظة فمعنى ذلك أن النظام العالمي المختل وغير المستقر حالياً مقبل على نمط حاد من التفاعلات بحثاً عن نقطة توازن جديدة.
قراءتي الخاصة في ضوء تلك الملاحظات تدفعني للاعتقاد بأن الملامح العامة للسياسة الخارجية الأميركية للإدارة الحالية سترسمها ثلاث قناعات أساسية: 1- أميركا أولاً. 2- إسرائيل مصلحة أميركية. 3- الإسلام السياسي هو العدو الرئيس في هذه المرحلة. ومع ذلك يبدو لي أن ترجمة هذه القناعات الثلاث إلى سياسة خارجية متجانسة وقابلة للدفاع عنها والترويج لها لن تكون أمراً هيناً. فترجمة شعار «أميركا أولاً» إلى مواقف عملية في مجالات مختلفة، كالبيئة والاقتصاد والأمن وغيرها، ستدفع إدارة ترامب الى اتخاذ إجراءات متنوعة قد تؤدي إلى عدم التقيّد بما تم الاتفاق عليه في مؤتمر باريس حول المناخ، والانسحاب من اتفاقيات ومناطق التجارة الحرة التي يعتقد أنها تضر بالاقتصاد الأميركي، وحماية ودعم المنتجات الأميركية بوسائل كثيرة قد يكون من بينها رفع الرسوم الجمركية أو فرض قيود كمية على الواردات، والدخول في حرب اقتصادية وتجارية مفتوحة مع الصين وربما مع غيرها من الاقتصادات الصاعدة، وممارسة ضغوط على دول حليفة لحملها على المشاركة بنصيب أكبر في التكاليف الأمنية… الخ. ولأن بعض هذه الإجراءات، وربما معظمها، قد يدفع الولايات المتحدة نحو صدام مع معظم المؤسسات الدولية والقوى العالمية والإقليمية، فمن المتوقع أن ترد القوى المتضررة بإجراءات مضادة يصعب التكهن بنتائجها وتأثيراتها على الولايات المتحدة وعلى النظام العالمي ككل.
وترجمة شعار «إسرائيل مصلحة أميركية» إلى سياسة واضحة تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، يغري إدارة ترامب باتخاذ مواقف جديدة تتناقض بطبيعتها مع طموحات ومصالح الشعوب العربية وربما تتجاوز أيضاً قدرة الأنظمة العربية على الاحتمال، بما فيها تلك الحليفة للإرادة الأميركية. وقد بدأت ملامح التغير في هذه السياسة تتضح إبان المؤتمر الصحافي الذي عُقد في أعقاب اللقاء الذي جمع ترامب ونتانياهو أخيراً في البيت الأبيض. فقد أعلن ترامب أنه لم يعد يتمسك بحل الدولتين وسيقبل أي حل يتم الاتفاق عليه بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بما يعني أن الولايات المتحدة ستمتنع عن محاولة فرض حل على أي من الطرفين المتصارعين أو كليهما، أو حتى مواصلة جهودها لتذليل العقبات التي تعترض حل الدولتين، وستترك الأطراف المعنية وشأنها للتوصل إلى نوع التسوية التي ترتضيها. النتيجة الوحيدة للموقف الأميركي الجديد هي إطلاق يد نتانياهو لفرض نوع التسوية التي يراها. أما نتانياهو فلم يفوّت هذه الفرصة التاريخية وقام بسكب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة في المنطقة حين ادعى أن الدول العربية لم تعد ترى في إسرائيل عدواً وبات على العرب وإسرائيل أن يتحالفا معاً لمواجهة عدوهما المشترك (يقصد إيران بالطبع). وبعد أيام قليلة ظهرت مواقف رسمية إسرائيلية تطالب بضم هضبة الجولان السورية. وتكفلت صحف إسرائيلية بمهمة تسريب خبر اللقاء السري الذي جمع نتانياهو والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي والملك عبدالله الثاني في العقبة، ووصل الأمر إلى حد إقدام وزير في الحكومة الإسرائيلية الحالية على الإفصاح عن مشروع يجري النقاش حوله لإقامة دولة فلسطينية بديلة في قطاع غزة بعد ضم جزء من سيناء، ولم يكن ذلك كله مجرد مصادفة.
وأخيراً، فإن ترجمة شعار «الإسلام السياسي هو العدو» إلى سياسة عملية، يغري إدارة ترامب بتبني نهج جديد في الحرب الأميركية المعلنة على الإرهاب، والتي لا ينبغي أن تقتصر من الآن فصاعداً على الجماعات التقليدية، كـ «القاعدة» و «داعش» والتنظيمات المماثلة، وإنما ينبغي أن يتسع نطاقها لتشمل مختلف الجماعات والنظم «الأصولية» التي تتخذ من الدين الإسلامي غطاءً أو مرجعية فكرية لمشاريع سياسية تهدد المصالح الأميركية في المنطقة أو في العالم. ووفقاً لهذه الرؤية يبدو أن إدارة ترامب تعتزم إدخال مروحة واسعة من القوى العاملة تحت مظلة «الإسلام السياسي»، تبدأ بنظام «ولاية الفقيه» في إيران وقد لا تنتهي بجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، ضمن قائمة الجماعات والنظم الإرهابية. وهنا تتجلى أكثر جوانب سياسة ترامب الخارجية خطورة واستعصاءً على الفهم. فقبل وصول ترامب إلى السلطة كانت الإدارات الأميركية السابقة تقوم بعملية تقييم أو فرز قبل إدراج أي فصيل على قوائم الإرهاب، وبدت جميعها حريصة على خلو القوائم من تنظيمات تعتبرها «معتدلة»، كجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، أو من نظم «مسؤولة» يمكن التفاوض معها عند الضرورة، كالنظام الإيراني. لذا سيتعين على إدارة ترامب في هذه الحالة إعلان الحرب على جبهة عريضة من تيارات ونظم تتكفل هي بمحاربة بعضها بعضاً. لكن يبدو أن إسرائيل والقوى الصهيونية، والتي كانت تسعى باستماتة لإعادة عقارب ساعة العلاقات الأميركية- الإيرانية إلى ما قبل إبرام الاتفاق النووي، وجدت ضالتها في شخصية ترامب المثيرة للجدل. وفي تقديري أن نتانياهو لن يتردد في بذل كل ما في وسعه لدفع الإدارة الأميركية الجديدة لإعلان الحرب على إيران بهدف إسقاط نظامها وليس فقط تدمير برنامجها النووي. فبوسع رجل مثل نتانياهو أن يتعايش مع تنظيمات «إسلامية» تتبنى خطاباً معادياً لإسرائيل، بل ويرى في وجود مثل هذه التنظيمات فرصة لتفتيت وإضعاف العالمين العربي والإسلامي، لكن ليس بوسعه أن يتعايش مع دولة كإيران، خصوصاً إذا كان لديها برنامج نووي ومصرة على اكتساب علمائها المعرفة النووية. لذا أعتقد أن نتانياهو يشعر الآن بسعادة بالغة بعد أن ضمن أن الخيارات الأميركية كافة في مواجهة إيران، بما فيها الخيار العسكري، باتت مطروحة من جديد.
ربما يعتقد ترامب أن بمقدوره صياغة سياسة خارجية تسمح بتحقيق مصالح «أميركا أولاً»، ومصالح «إسرائيل ثانياً»، وتمكنه في الوقت نفسه من بناء تحالف قوي في مواجهة «إسلام سياسي» يرى أنه بات العدو الحقيقي والأخطر، وأن معظم الدول العربية والإسلامية ستضطر في النهاية للتفاعل إيجابياً معها. فحين يقرر شن الحرب على جماعات تنتمي إلى الإسلام الجهادي «السنّي» ستكون إيران الى جانبه وستحارب من خندقه، وحين يقرر شن الحرب في مرحلة لاحقة على إيران سيضمن تعاون ليس فقط دول «الإسلام السني» وإنما إسرائيل أيضاً. فإسرائيل لا تستطيع أن تتعايش مع أي دولة قوية في المنطقة، عربية كانت أم إسلامية، سنية كانت أم شيعية، فالكل عندها سواء. المهم بالنسبة إليها أن يقتل العرب والمسلمون بعضهم بعضاً كي تنجو هي.
في منطقة الشرق الأوسط ثلاث دول فقط هي إسرائيل وتركيا وإيران، تعرف ما تريد ولديها من عناصر القوة ما يكفي لتمتعها بهامش من المناورة يسمح بالتعامل مع إدارة ترامب، سواء لتعظيم مكاسبها إلى أقصى حد ممكن أو لتقليل خسائرها إلى أدنى حد ممكن. أما الدول العربية فهي التي ستتحمل عبء السياسة الخارجية العنصرية لدونالد ترامب وستدفع تكاليفها مالاً ودماً ودموعاً.