لا خلاف على أن فوز دونالد ترامب برئاسة أقوى دولة في العالم وصاحبة أكبر مصالح في المنطقة العربية حمل معه الكثير من المفاجآت،لا زالت أصداؤها تتسع يوما بعد يوم، سواء على المستوى الدولي أو المحلي. صحيح أن الرئيس هو مرشح الحزب الجمهوري إلا أنه ليس جمهورياً بالمعنى الفكري التنظيمي السياسي، وإنما يمثل “نيزكا” سقط فجأة في الملعب الجمهوري . وهذا الأمر ليس غريباً في الدول الديمقراطية . فبين الحين والآخر تحمل صناديق الانتخاب شخصية غريبة خلافية غير متوقعة تتسم بالشوفينية و العنصرية و التطرف، و لكنها لا تستمر طويلاً. ويتجسم دورها التاريخي في إحداث “ هزة “ في المجتمع، وفي الدوائر السياسية و الحزبية “، لإجراء كثير من المراجعات، حتى تعاود الدولة تصحيح مساراتها، ليس بالضرورة بالاتجاه الذي يريد هذا الرئيس، ولكن بالاتجاه الأكثر عقلانية ورشداً وتوازناً، والأبعد عن الانسياق التلقائي مع مجريات الأحداث”.
فالقضايا التي يثيرها ترامب حول “أمريكا أولاً، و هيبة امريكا، وعودة الصناعات الأمريكية من شرق آسيا و امريكا الوسطى و الجنوبية، وتكاليف الدفاع عن دول أخرى، ومحاربة الإرهاب، والتقارب مع روسيا، والدعم المطلق لإسرائيل ونقل السفارة إلى القدس ومنع المسلمين و المكسيكيين من دخول أمريكا و غيرها”، كلها مسائل هامة و خطيرة. ولكن المعالجات التي يقترحها ترامب متسرعة و فجة وبعيدة عن النضج والحكمة و فيها نغمة استعلائية واضحة. فقضايا البطالة، وهجرة الصناعات ، تتطلب رؤية جديدة لنظام التجارة العالمي بكامله، بعد أن تعددت أقطاب الاقتصاد والمال والإنتاج السلعي، و بعد أن أصبح التنافس على الأسواق في ظل التجارة العولمية الحرة غاية في الصعوبة، بسبب الفروق الضخمة في تكاليف الإنتاج و الفروق الهائلة في الأجور . بمعنى أن مقولات ترامب المختلفة تمثل اعترافا صريحا بأن المعالجات و الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية و المالية الدولية التي تمت في إطار القطب الواحد منذ 30 سنة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أصبحت بحاجة إلى “مراجعة شاملة للمحافظة على الحد الأدنى من المصالح الوطنية” ليس فقط للدول الكبرى وإنما للدول الصغيرة والناهضة والنامية على حد سواء.
وبالنسبة للدفاع ،سواء عن أوروبا أو المنطقة العربية ، فإن مقولات ترامب ينبغي أن تكون جرس إنذار للمنطقة بأسرها. فالمنطقة كما تبدو لترامب ومساعديه الجدد عبارة عن دول ضعيفة غير قادرة على حماية نفسها ،بعيدة عن الديمقراطية، تضطهد المسيحيين، ممعنة في التطرف و احتضان الإرهاب، وغارقة في نزاعات طائفية وعرقية وحروب أهلية و دينية، وتتحكم فيها ثلاث دول: تركيا وايران وروسيا، كل منها يتوسع على طريقته. أما إسرائيل الاستعمارية التوسعية ، فهي الكيان الذي يرى فيه ترامب النموذج الأمريكي من حيث تجميع المهاجرين اليهود من أطراف العالم، وإقامة دولة على أرض ليست لهم، ولكنهم نجحوا كما نجحت أمريكا. في هذا الإطار لا يرى ترامب مشكلة في نقل سفارة أمريكا إلى القدس.
إن زيارة الملك عبدالله الثاني الهامة الناجحة إلى أمريكا، و البيانات التي قدمها لترامب في أول لقاء له لزعيم دولة ،و لأعضاء الكونغرس، سوف تنقل الأجزاء من الصورة التي لا يراها ترامب، و الرسالة كانت واضحة تماما . وهي أن على الولايات المتحدة أن تتجنب أية إجراءات تؤدي إلى تأجيج حالة الغضب العربي و الفلسطيني الشعبي وليس الرسمي فقط، وان الشعوب العربية لا تزال لديها قدرات على الفعل الإيجابي، وتطلعات نحو السلام، ورفض للتطرف والإرهاب و احترام لجميع الأديان. بمعنى أن جهود الملك سعت لأن ترى الإدارة الأمريكية ليس البانوراما العربية الرسمية فقط، وإنما أن تمعن النظر في البانوراما العربية الشعبية بكل إمكاناتها و قدراتها على بناء مستقبل أفضل لها و للعالم. وهذا يتطلب من الجانب العربي : أولاً : أن يكون مؤتمر القمة العربي القادم في عمان فرصة للتوافق العربي الجاد في معالجة المشكلات الكبرى وفي مقدمتها التطرف والإرهاب و التشتت الطائفي و الجهوي . ثانياً : أن تعيد الأقطار العربية النظر في استراتيجيات الأمن واستراتيجيات التنمية الاقتصادية . فكلاهما بحاجة إلى مراجعة و إنطلاق جديد، لتزايد عبء الأمن العسكري والاجتماعي الذي يتطلب اقتصاداً قوياً قادراً على دعمه . ثالثاً : أن تنجز كل دولة متطلبات الإصلاح المتأخرة وأهمها الديموقراطية والمشاركة الشعبية في إدارة شؤون المجتمع وعدم الانفراد بالسلطة والقرار، الذي اثبت عبثيته، بل وأصبح مبرراً للقوى المحافظة في أوروبا وأمريكا للحكم بعدم أهلية دول المنطقة للاستمرار. رابعاً : أن تضع كل دولة حداً للانقسام الطائفي والسياسي والديني أولاً لمصلحة استمرار الدولة و أمن المجتمع وعبثية هذه الحالة ، وثانياً حتى لا تصل إدارة ترامب و بتشجيع من اللوبي الصهيوني إلى قناعة بأن تقسيم دول المنطقة على أسس طائفية هي الحل.
إن الصورة التي يظهر بها العالم العربي اليوم بائسة، وستحاول إسرائيل أن تزيدها تشويها و بؤساً. وليس من المتوقع أن تتغير النظرة الأمريكية والأوروبية إلى المنطقة إذا لم تأخذ هذه بتغيير نفسها وإجراء المراجعات والتعديلات والإصلاحات لبناء مستقبل مختلف، إضافة إلى النشاط الدبلوماسي والسياسي القائم على الحكمة والعقلانية.