حينما تدخلت في سورية، برّرته روسيا بمواجهة الإرهاب وسحق الإرهابيين “الشيشان” قبل أن يعودوا إلى روسيا، وهي الصيغة التي برَّر بها الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، غزو أفغانستان ثم العراق. ثم أوضحت أكثر أنها تدخلت لمنع سقوط النظام في لحظةٍ كان عاجزاً عن الاستمرار، وكان يجب أن يجري إبعاد المتحكّمين فيه في سياق حلّ سياسي، لتحقيق تغيير يؤسّس لوضع جديد. وربما جرى ترداد تبريراتٍ أخرى، منها أن “النظام الشرعي” هو الذي طلب التدخل الروسي.
لكن، ربما أوضح تصريح وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويغو، الأمر من زاويةٍ أخرى، تنفي كل ما قيل قبلاً عن مبرّرات التدخل. قال، وهو يشير إلى “الضربات الجوية” التي أسفرت عن قتل 35 ألفاً “من الإرهابيين” أن روسيا “نجحت في وقف سلسلة الثورات في الشرق الأوسط”، وجزم أن “سلسلة الثورات التي انتشرت في أنحاء الشرق الوسط وأفريقيا انكسرت” (رويترز 22/12/ 2016). هو هنا يعلن “الهدف الأسمى” للتدخل في سورية، على الرغم من أن مصالح روسيا الاقتصادية والجيوإستراتيجية كانت في جوهر الأسباب التي دفعتها إلى التدخل وإقامة قواعد عسكرية، جوية وبحرية وبرية، لأجلٍ “غير محدَّد”. ويوضح شويغو بالتأكيد شعور روسيا الإمبريالية بخطر الثورات وخطورتها عالمياً، وعلى روسيا خصوصاً. بالضبط، لأن الوضع الاقتصادي الروسي ليس في وضعٍ مريح، والشعب الروسي يعاني من الفقر والبطالة كذلك.
وإذا كان هذا التقدير ليس في مكانه، بالضبط لأن أساس نشوب الثورات لا زال قائماً، فإن هذا الإعلان الواضح بأن تدخّل روسيا ووحشيتها قد أدتا إلى “إخماد ثورات الشرق الأوسط” يعني أن روسيا كانت، أولاً، ضد كل الثورات العربية، وهو ما وَضُح في موقفها من ثورات تونس
“روسيا هي ممثلة الإمبرياليات في سحق الثورات، وهي أداتها لهذا السحق” ومصر، ومن ثم اليمن وليبيا، حيث دافعت عن زين العابدين بن علي وحسني مبارك، وغضّت النظر عن سحق مظاهرات البحرين، وقبلت الدور السعودي الذي كان يناور لإجهاض ثورة اليمن، ولم تكن مع الثورة في ليبيا بل ظلت تدافع عن معمر القذافي، على الرغم من أنها تقول إن “الغرب” قد خدعها، حين وافقت على قرار مجلس الأمن الذي يسمح بالتدخل العسكري “المحدود”. لا يتعلق الأمر هنا، إذن، بالثورة السورية فقط، بل يصيب كل الثورات العربية، وكل الثورات الممكنة في العالم. ومن المنظار نفسه، كانت ضد ثورة أوكرانيا، وتدخلت عسكرياً لضم القرم، والسيطرة على شرقها. بمعنى أن روسيا الإمبريالية ضد كل الثورات، وهذا “طبيعي” لإمبرياليةٍ تريد السيطرة والاحتلال.
وثانياً تدخلت وهي مصممة على ممارسة كل الوحشية التي مارستها، من أجل إجهاض الثورة و”كسر” سلسلة الثورات التي بدأت من تونس. بالتالي، عملت على إكمال سياسات النظام، وإيران (وأدواتها) المتعلقة بالتدمير والقتل والترحيل، بكل الأسلحة المتطورة التي تمتلكها، من أجل تحويل الثورة إلى مجزرة. يوضح هذا التصريح أن السياسة التي وضعتها روسيا لتدخلها العسكري انطلقت من تدمير الثورة، بغض النظر عن الكلفة، ومن ثم كانت تعرف أن عليها، بالضبط، لأنها تواجه ثورة شعب، وليس إرهاب مجموعاتٍ صغيرة متحكَّم بها، أن تمارس كل الوحشية التي تجهض الثورة، بغض النظر عن عدد القتلى أو مستوى التدمير. ولا شك في أن إشارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حين لقائه كلاً من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في برلين، موحية هنا، حيث أشار إلى أنه سيمارس في حلب كما فعل في غروزني، أي ممارسة عملية التدمير الشامل بكل الأسلحة (البراميل المتفجرة من اختراع بوتين، ومورست للمرة الأولى في غروزني).
تعتبر روسيا هنا أنها، من أجل كسر سلسلة الثورات، كان لا بد لها من أن تمارس كل الوحشية التي توقفها، ليس في سورية فقط بل في “الشرق الأوسط”. وهذا ربما يوضّح الأرقام التي أتى بها شويغو في التصريح نفسه عن قتل “35 ألف مسلح” أو “إرهابي”، بعد أن نفذ الطيران الحربي الروسي (فائق التطور) 18800 طلعة منذ سبتمبر/ أيلول من سنة 2015. وربما توضّح أسماء القتلى طبيعتهم التي يقول إنهم من الإرهابيين، ولقد نشرت الأرقام وصفات هؤلاء (وأكثر منهم) وأعمارهم في تقارير لمنظمات وهيئات سورية ودولية مستقلة، فهم في معظمهم من الشعب الذي يعتبره شويغو إرهابياً ما دام قام بالثورة (وشويغو يعترف بأنها ثورة). وجرى قتلهم عن عمدٍ، لأنهم قاموا بالثورة التي يعلن أنه كسرها، ليس في سورية فقط بل في “الشرق الأوسط وأفريقيا”… هو الرعب من الثورة إذن، من إمبرياليةٍ تريد النهب والسيطرة. وهو رعب الإمبرياليات الأخرى.
وثالثاً، أنها بهذا التدخل نفذت ما أرادت الإمبرياليات الأخرى، وكانت الأداة التي جرى
“تقول هذه الإمبرياليات إن الموت البطيء أفضل من الموت الوحشي، على الرغم من أنه في الحالين موت” استخدامها، ليس من أجل إجهاض الثورات فقط، بل وتحويلها، في سورية، إلى مجزرة تخيف شعوب العالم. وهذا يفسّر الموقف الإمبريالي الأميركي الذي كان يغضّ النظر عمّا فعل النظام من وحشيةٍ في القتل والتدمير واستخدام الأسلحة المحرّمة، وما فعلته روسيا بتدخلها. لقد أخافت سلسلة الثورات التي ظهرت كانفجار سريع وكبير يهدّد الرأسمالية كل الدول الإمبريالية، في لحظة أزمتها المستعصية على الحل، والتي فرضت سياسة التقشف التي تعني انهيار الوضع المعيشي للشعوب في البلدان الرأسمالية ذاتها، وتسريع نهب الأطراف وتدمير مقومات وجود شعوبها. لهذا، كان لا بد من مجزرة كبيرة تدمّر بلداً له تاريخ حضاري كبير (بعد أن دمرت الإمبريالية الأميركية العراق)، وموقع مميز، من أجل أن تعي شعوب العالم التي باتت تنهب بشراسة أن عليها قبول الموت الذي تعيشه، أو تنتظره من دون مقاومةٍ أو تمرّد أو ثورة، لأنها حينها ستدمر بكل العنف والوحشية. بالتالي، تقول هذه الإمبرياليات إن الموت البطيء أفضل من الموت الوحشي، على الرغم من أنه في الحالين موت، وأن الإحساس بالموت جوعاً هو الأساس الذي يفرض الثورات، مهما كانت النتائج، لأنه “رد الفعل الطبيعي” على الشعور بالموت هو الحركة، التمرّد، أي الثورة.
إذن، روسيا الإمبريالية هي ممثلة الإمبرياليات في السعي إلى سحق الثورات، وهي أداة هذه الإمبرياليات لهذا السحق. ولسخرية التاريخ أن يعاد كمهزلة، بعد أن كان تراجيديا حينما لعبت روسيا القيصرية دور “حصن الرجعية” (كما سماها ماركس) من أجل سحق ثورات سنة 1848 في أوروبا. إذن، يعود حصن الرجعية، لكنه هذه المرة مستفيداً من كل التطور التكنولوجي العسكري الذي أنجزته الاشتراكية مع الأسف، وليكون هو قوة الصدام المعلنة ضد ثورات الشعوب. وأن يسلّح بجيش “عرمرم” من “اليسار الممانع” في العالم كله، يقدّم له المبرّر الأيديولوجي لما يفعل، من خلال تشويه الثورات، و”القتال المستميت” للتأكيد على أنها “مؤامرة إمبريالية”، أو أنها ليست ثوراتٍ، لأنها بلا قيادة “ماركسية لينينية”، أو لأنها أتت بـ “الإرهابيين”. هذا اليسار الذي فقد كل فهم، وكل معرفة، وكل إنسانية، وبات أداةً بيد “حصن الرجعية” في ضخّ الترهات حول الثورات، وقام بالتمهيد “النظري” لسحقها.
إذا كان سيرغي شويغو هو وزير حرب الإمبرياليات، فيمكن القول إن قدري جميل وكثيرين من “شيوعيي” العالم هم هيئة الأركان الأيديولوجية في الحرب التي تخوضها الإمبرياليات ضد الثورة. وليبدو أن الاتحاد السوفييتي لم يُنتج سوى هاتين “القوتين”: حصن الرجعية العسكري وحصن الرجعية الأيديولوجي.