أقمت في برلين لمدة سنة كزميل في معهد الدراسات المتقدمة، كان ذلك في العام الدراسي 2010-2011، يومها اكتشفت برلين التركية والكردية. كان الحي التركي في المدينة يضج بحياة المهاجرين، الذين نقلوا معهم مطبخهم وعاداتهم ونمط حياتهم. من هذا المنظور بدت المدينة مفتوحة ومتواضعة وقادرة على احتضان المهاجرين. صحيح إنني تعرفت إلى عدد من اللاجئين السياسيين الأكراد والأتراك، لكن هذا لم يغير من المعطى العام بأنني أمام هجرة إرادية، بحثا عن العمل وشروط اقتصادية أفضل. ولقد تسنى لي في ذلك العام أن أقوم بزيارة الحي الفلسطيني في المدينة، الذي كان حيا صغيراً، يروي مأساة مخيمات لبنان، من دون أن يتحوّل إلى ظاهرة. فظاهرة اللجوء الفلسطيني من لبنان، تمركزت في تلك الفترة في الدانمارك، حيث تسنى لي في زيارة قصيرة لكوبنهاغن عام 2004، أن أكتشف في ضاحية المدينة، مخيم شاتيلا وقد تحوّل إلى مجموعة من أبنية السكن الشعبي، حيث يعيش الناجون من المذبحة في غيتو شبه مغلق، يستعيدون ذكرياتهم عن وطنين ضائعين، ويفتخرون بجنسيتهم الأوروبية الجديدة.
غير أن المشهد البرليني هذا العام يختلف جذريا عن الماضي. وصلت إلى برلين في أواخر شهر أيلول/سبتمبر الماضي، وكانت ذاكرتي مليئة بصور مآسي الموت في سوريا، التي أضيف إليها مشهد اللجوء السوري الكبير إلى لبنان، الذي امتزج للأسف، بلغة عنصرية طائفية لبنانية تدعو إلى الاشمئزاز والرثاء في آن معا، كما سبقتني صور مراكب الموت السورية في البحر الأبيض المتوسط، ومشاهد قوافل النازحين المشردين على طرقات أوروبا.
وفي برلين رأيتني اليوم في مدينة سورية يسكنها الشعور بالفقدان والخوف من المجهول والخجل من المصير المحزن الذي قاد ملايين السوريات والسوريين إلى المنافي. لا أدري كيف يمكن قراءة هذا المنفى الجماعي الذي وجد فيه السوريون أنفسهم في مجاهل القارة الأوروبية، وهم في حال من اليأس الذي جعل من إصرارهم على البقاء مبررا وحيدا لوجودهم.
هل نحن أمام ظاهرة يمكن نعتها بالمنفى؟
عدت إلى نص ادوارد سعيد «تأملات في المنفى»، بحثا عن لغة ملائمة من أجل فهم هذه الظاهرة الجديدة، التي باتت تشكل محورا ثابتا للنقاش السياسي والأخلاقي.
تحدث سعيد عن «الصدع الذي لا يلتئم بين الكائن الإنساني ومكانه الأصلي، بين الذات ووطنها الحقيقي، وحزنها الكبير الذي لا يمكن تجاوزه».
يأخذنا سعيد في رحلته داخل المنفى الأدبي لنكتشف معه أن « الثقافة الغربية، في قسمها الأكبر، هي نتاج عمل المنفيين والمهاجرين واللاجئين». يتوقف عند تجارب ادورنو واورباخ وغيرهما كي يصوغ تحيته لمنفاه بوصفه فلسطينيا منفياً.
لكن صورة ملايين المهجّرين واللاجئين السوريين، تطرح اليوم سؤالاً مختلفاً، فهؤلاء الذين فرض عليهم المنفى، قادمون ليس من بلاد يحنون إليها فقط، ويحملونها في وعيهم وحزنهم، بل جاءوا من منفى آخر، هو منفاهم في بلادهم نفسها، حيث تحوّل فعل طردهم العنيف تحت قصف الطائرات والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية، إلى مجرد استكمال لواقع النفي الذي عاشوا فيه قرابة نصف قرن، تحت سلطة مستبدة ومتوحشة، جعلتهم غرباء في وطنهم.
قراءة المنفى الجديد تأخذنا إلى حقيقة مرعبة وهي أن فعل النفي مستمر ومتواصل ولم يتوقف، وما تحويل سوريا إلى أرض مستباحة للحروب الاقليمية والدولية التي تدور على أرضها، إلا المؤشر على أن مآسي اللجوء السوري مستمرة وتهدد بنشوء كارثة كبرى في المنطقة وفي العالم.
لا أريد تبسيط الأمور وأدّعي أنه لا يوجد فرق بين المنفيين الداخلي والخارجي، وأن مأساة الخروج من الوطن وهجرة اللغة الأم، ومحاولة الاندماج الصعبة في ثقافات أخرى ليست بعداً جديدا ومؤلما من آلام المنفى السوري، لكنني أسعى إلى قراءة المسألة في جذورها السورية، كي لا تلتبس الأمور، ويتحوّل فعل التضامن الأخلاقي والسياسي الواجب مع الشعب السوري، إلى مجرد فعل إغاثي، ونقاش حول إشكاليات الاندماج في المجتمعات التي استقبلت أعدادا متفاوتة من اللاجئين.
يجب إعادة المسألة إلى سياقها، فالمأساة اليوم تطال السوريات والسوريين أينما وجدوا، وربما كانت مآسي المنفيين داخل وطنهم هي الأكبر والأشد إيلاما، وهنا تقع المشكلة الحقيقية، التي لا نرى هنا، سوى إحدى نتائجها. اللجوء السوري، على أهميته، قد لا يكون سوى ظاهرة جانبية لما يمكن أن نطلق عليه اسم منفى الخوف والموت في سوريا نفسها.
قدمت شهادات سجن تدمر (فرج بيرقدار ومصطفى خليفة وياسين الحاج صالح)، وهي نصوص كتبت قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، صورة عن آلة القمع الرهيبة، التي حوّلت الأكثرية الساحقة من السوريين إلى منفيين داخل وطنهم، حيث تتسيّد مملكة الصمت، بحسب تعبير رياض الترك، ويُفرض نظام جمهوري وراثي آلته القمعية، جاعلا من سوريا صحراء لغوية، مغطاة بصور الديكتاتور وتماثيله.
كان المنفى السوري جزءا من آلة النظام الإقليمي العربي، الذي تشكّل من خلال التحالف بين أنظمة الاستبداد العسكرية وبين أنظمة الاستبداد النفطية. من هذا المنطلق يجب أن نفهم الدور الخليجي في الثورة المضادة التي صنعها الجيش المصري عبر الانقلاب العسكري، أو عبر دعم المجموعات الأصولية في سوريا التي قامت بتحطيم شعار الحرية الذي نادى به ملايين المتظاهرين، مؤسسة لقمع جديد يتناغم مع آلة نظام الاستبداد التي لجأت إلى الدعمين الروسي والإيراني، فجرّت المنطقة إلى شفير حرب طائفية سنية شيعية، لن تقود إلا إلى الخراب.
لا أريد تحليل مسارات الحرب السورية المعقدة التي كشفت هزال ولا معنى شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان، في زمن الرأسمالية الليبرالية الفالتة من عقالها، لكنني أسعى إلى وضع النقاش في إطاره الصحيح، أي عبر العودة إلى جذر المنفى الذي نشاهده اليوم في لبنان وتركيا والأردن وفي الكثير من المدن الأوروبية. فالمنفى السوري تأسس كمنفى داخلي أولاً، وهو منفى اصطبغ طوال نصف قرن بالدم، لكن آلة الاستبداد التي وجدت نفسها عاجزة أمام الناس التي احتلت شوارع المدن والأرياف، جعلت من سوريا أرضا لواحد من أكبر حمامات الدم في العالم.
وضع الاستبداد مجموعة من القواعد الصارمة كي يحوّل سوريا إلى منفى داخلي مسوّر بالصمت. حطّم مؤسسات المجتمع المدني وخصوصا النقابات والأحزاب، وضع قواعد لغوية صارمة لا يمكن تجاوزها، وألغى الأفراد والجماعات، بحيث حوّل السوريات والسوريين من مواطنين إلى رعايا، وتصرف بالملكية العامة بصفتها ملكية خاصة، للعائلة الحاكمة وفروعها.
ماذ يعني أن تعيش في المنفى داخل وطنك، وتشعر أن لغتك لم تعد ملكك وأن حياتك مسيجة بالخوف؟
المنفى الداخلي هو الخوف الدائم والشعور بفقدان الأمان، والإحساس بالغربة داخل أمكنة الذاكرة الأليفة، وتحلل المسافة بين الخاص والعام، واستباحة الجسد الإنساني.
هذه العناصر تتكامل في ترسيمة معقدة تقود إلى فرض الصمت على الضحية وإجبارها في الوقت نفسه على استخدام لغة آلة القمع. فهناك، بحسب ياسين الحاج صالح، تكامل عضوي بين الوظيفة الأمنية التي تمنع تسمية الأشياء بأسمائها والوظيفة الرمزية التي تسمي الأشياء بغير أسمائها.
في صحراء الكلام يصير الوطن منفى، وحين تحاول الضحية كسر المعادلة واستعادة حقها في التعبير عن وجودها، ينتقل الاستبداد إلى لحظته الإجرامية السافرة، مجبرا ملايين المنفيين داخل وطنهم للنزوح إلى مناف جديدة.
ما يسمى اليوم اللجوء السوري هو هذا المنفى المزدوج، الخروج من منفى من أجل الدخول في منفى جديد، وكل المحاولات التي تحاول تقديم العلاجات للمنفى الجديد متجاهلة جذره المتمثل في المنفى داخل الوطن هي محاولات، رغم نبل بعضها الإنساني، محكومة بالفشل.
تقدم سوريا تعريفا جديداً للمنفى، فالمنفى يبدأ في الوطن، فحين يصير شعب كامل منفيا داخل بلاده وغريبا في أرضه، ينتقل سؤال المنفى من كونه سؤالا يمس فئات محددة من السكان إلى سؤال عام، وتتحول مأساة الهجرات الجماعية، التي لم يشهد العالم مثيلا لها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلا مرة واحدة خلال النكبة الفلسطينية، إلى سؤال دائم، لن يجد حله الجذري إلا عبر تحرر البلاد المنكوبة بالاستبداد، وبناء قيم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية.