انقسمت النخب السياسية والمثقفة العربية تجاه ما يجري في المنطقة من أحداثٍ مصيرية، وإن كان الانقسام على أكثر من صعيد، أيديولوجياً وطائفياً ودينياً وعرقياً، موجوداً دائماً في تاريخنا المعاصر، إلا أنّه، منذ أحداث الربيع العربي 2011، وصل إلى حد عميق غير مسبوق، وأخذ أبعاداً اجتماعية ملحوظة، خصوصاً نحو ما يجري في سورية، وعشية الانقلاب العسكري المصري.
أعادت هذه الأحداث صوغ المشهد العام، وتظهير حالة الانقسام السياسي والأيديولوجي في الإعلام والمجتمع. وإذا كانت قد بدأت عبر الاتجاهات الأيديولوجية، إسلاميين وعلمانيين، فإنّها مع المتغيرت الإقليمية تلبست الطابع الطائفي والديني والعرقي والاجتماعي والثقافي، ولم تقف عند حدود القوى السياسية الأيديولوجية، ولا حتى الصراع على السلطة، إذ بدا العالم العربي كأنه مجموعات من المليشيات والجماعات والطوائف، وأنّه في عصر ما قبل “معاهدة وستفاليا”، بعد تفكّك السلطة الرمزية للدولة القومية- القطرية العربية، مباشرة ومادياً أو معنوياً.
لم يعد هناك اعترافٌ بمرجعيات عليا فكرية أو ثقافية أو سياسية أو أخلاقية؛ في ظل هذه الانقسامات والخلافات والسجالات حول الأحداث من العراق إلى سورية، مروراً بالبحرين واليمن، وبالطبع مصر، إلى أغلب الدول العربية، مثل قضايا الموقف من التطرّف والإرهاب، والنقاشات حول المناهج التعليمية، ومفهوم الدولة المدنية والمرأة والأقليات والدين والمجتمع؛ حتى وصل الأمر إلى تبرير (وتسويغ) الانقلابات العسكرية أو القتل الجماعي والذبح على الهوية أو إلغاء الآخر؛ طائفياً وسياسياً وأيديولوجياً ودينياً..إلخ.
مثل هذه الثقافة العامة الجديدة، بحد ذاتها، خطر كبير على السلم الأهلي والمجتمعات أكثر تهديداً لنا من المؤامرات الخارجية، وأشد فتكاً من حالة الانقسام نفسها.
يدفع هذا وذاك بالنخب السياسية والمثقفة العربية الإصلاحية، ذات المشارب الأيديولوجية والسياسية والدينية والطائفية..إلخ، المختلفة إلى التداعي إلى إعلان ميثاق عربي جديد، يرسم خطوطاً عامة ومعالم رئيسة في مواجهة اللحظة التاريخية الحالية، يعيد تدشين نوع من المرجعية والتفاهمات العامة التي من المفترض ألا يكون هنالك خلاف عليها، أو تجاوز لها، من أي طرف.
من المفترض أن تنطلق هذه الدعوة من مثقفين ومراكز تفكير مستقلة، لا من السلطات والحكومات التي جرّت الشعوب إلى هذا المستنقع التاريخي. فهل هناك إمكانية اليوم، في ظل هذه الحال، التوافق على هذه المرجعية، وما هي المعايير التي يمكن أن تجمع المثقفين الأحرار الصادقين والسياسيين من مختلف تلك الخلفيات؟
المعيار الأول، في ظني، هو الإنساني، أي صون الدماء وتحريم وتجريم القتل والتعذيب وانتهاك كرامة الإنسان، لسببٍ طائفي أو سياسي أو ديني..، ولا يجوز تبرير قتل المدنيين والأبرباء والأطفال والنساء. فليكن الاختلاف إلى أي مدى، لكن إذا وصل إلى تبرير القتل، فالثقافة البديلة هي ثقافة الحرب الأهلية والجرائم والعصابات والهويات الفرعية وتدمير السلم الأهلي والمجتمع.
الثاني هو الديمقراطي، والمقصود ليس فقط الانتخابات. لكن، بالمعنى الفلسفي الشامل، أي حرية اختيار الحكومة، والحريات العامة والتعدّدية السياسية وتداول السلطة.
الثالث هو الحقوقي، بمعنى احترام حقوق الإنسان الأساسية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، من حيث المبدأ، وكما تنص عليها المواثيق الدولية والحقوقية.
الرابع يتمثل بالاعتراف بالتعدّدية، وبالتنوع المجتمعي، بحق “الطرف الآخر” بالوجود، اجتماعياً وثقافياً سياسياً.
الخامس هو الأخلاقي والقيمي، أي ضد الفساد السياسي والمالي والإداري، وضد ازدواجية المعايير، وضد شراء الذمم. وتكمن أهمية هذا المعيار اليوم مع انتشار هذه المظاهر، إذ أصبح الفساد سمة السياسات العربية، وممنهجاً وأساساً لتدمير الإعلام والمثقفين ومصداقيتهم.
بالطبع، قد تتعارض رؤية المثقفين والسياسيين لتطبيق المعايير السابقة على ما يجري في المنطقة. لكن، من ناحية نظريةٍ، لا بد أن تمثل مرجعيةً ومظلة للجميع، أولاً، وثانياً إعطاء الأولوية فيها للإنساني أولاً، ثم البقية بحسب الترتيب بما يكفل إعادة إيجاد “الأرض المشتركة” العامة لكل النخب العربية، وأن يشمل الجميع.