زاد رئيس الوزراء، رئيس مجلس الأعيان الأسبق طاهر المصري، من جرعة الصراحة والجرأة في محاضرته الأخيرة (أول من أمس) في الكرك، والتي جاءت بعنوان “من يحمي الاستقرار في الأردن: السلطة أم الدولة؟”.
المنظور الذي ولج منه المصري لتفكيك المشهد وقراءة الوضع الراهن وتقديم إطار فكري-سياسي، هو منظور مهم يستحق المتابعة الدقيقة والعميقة، ويتمثّل في جدلية السلطة والدولة في الأردن، مركّزاً على أهمية عدم تغول الثانية على الأولى، والتمييز بينهما، فيما أحد أكبر جوانب الاختلال في التفكير السياسي هو الخلط بينهما، وعدم التمييز بين ضرورة وجود سلطة قوية، لكن في الوقت نفسه وجود دولة قوية بمؤسساتها الرسمية وغير الرسمية وبالمجتمع المدني.
في البداية، قام المصري بإعادة فكّ وتركيب لمفهوم الأمن والاستقرار السياسي؛ فيما إذا كان يرتبط بتضخيم الأدوات الأمنية وتقوية السلطة على حساب الأطراف الأخرى في الدولة، أم عبر تقوية الدولة نفسها، لتكون هي الحاضنة الحقيقية للأمن الوطني والاستقرار الداخلي والأهلي والمجتمعي.
أهمية طرح جدلية الدولة والسلطة تأتي من خلال بعدين رئيسين؛
الأول، مرحلة “الربيع العربي” وما بعد، التي شهدت ثورات شعبية ضد تغول الحكومات والسلطات والفساد وفقدان الثقة بين المجتمع والدولة، ثم تفكك الدول والمجتمعات المحيطة من الداخل، ما يؤكّد أن الأنظمة مهما بلغت قوتها بوليسياً وأمنياً لا يمكن أن تكون قادرة على حماية الاستقرار السياسي، بل ربما تكون “أداة فعّالة” في تحطيم قيم المجتمعات وثقافتها، وإغراقها في أزمات داخلية وحروب أهلية.
الثاني، هي التغيرات الاجتماعية الأخيرة في الأردن. وهو جانب أشار إليه المصري في محاضرة سابقة، عندما طالب بضرورة مراقبة هذه التحولات، بخاصة الجانب السلبي منها. ما يؤكّد على أنّ مفهوم الدولة بشموليته وبأبعاده المختلفة، والذي يضم المجتمع المدني والاقتصاد والثقافة والأحزاب والقوى السياسية، هو الذي يكفل لنا التعامل مع التحديات المختلفة.
تأسيساً على هذا المنظور، راجع المصري نصوص الدستور حول النظام السياسي الأردني، مذكّراً بأركانه النيابية والملكية، وطرح أهمية مفهوم الأمة مصدر السلطات، وتوازن السلطات، وعدم تغوّل إحداها على الأخرى، والحريات العامة وحقوق الإنسان، والانتخابات بوصفها قناة التواصل المهمة بين السلطة والاختيارات الشعبية، ودعا إلى معادلة “تكامل السلطة والدولة” في مواجهة “السلطة هي الدولة”!
بالطبع، المحاضرة تحتاج إلى قراءة معمّقة وموسّعة، وإلى مراجعة تاريخية لتتبع هذه الجدلية؛ فهي تطرح مسألة في غاية الأهمية مرتبطة بطبيعة النظام السياسي والأمن المجتمعي والوطني والعلاقة بين الدولة والمواطنين.
هو، إذن، تنظير غير تقليدي، جريء، من رجل دولة من طراز رفيع، معروف بآرائه الإصلاحية المعتدلة، وبنزعته الوطنية التوافقية، ويمتلك خبرة سياسية طويلة. كل ذلك يدفع بـ”المطبخ السياسي” وبالمعنيين بصناعة السياسات، إلى التفكير بالمحاضرة والمنظور الإصلاحي الذي استندت عليه، فهناك فقر شديد اليوم في قدرة المسؤولين والسياسيين الحاليين على تقديم “تنظير سياسي” عميق، بل حتى في الرؤية السياسية والرواية الإعلامية وقنوات الاتصال بين الحكومات والشارع.
بالطبع، ستكون هناك أصداء متباينة للمحاضرة، واتجاهات مختلفة في قراءتها وتفسيرها؛ نخبة رسمية ورجالات دولة سابقون سيسعون إلى تأويلها عبر نزعة “الشخصنة” و”الاتهامية” التي أصبحت مزاجاً معروفاً، للأسف، في التعامل مع أي نقد أو خطاب إصلاحي. وسيسعى البعض إلى توصيفه بـ”ابن الدولة العاقّ”، بعد أن خرج من “السيستم”. واتجاه آخر معارض حادّ سينتقدها وينتقد المصري بوصفه “ابن الدولة” المدجّن، الذي لم يفعل شيئاً خلال وجوده فيها!
إذا بقينا نفكّر بهذه الطريقة، فلن نجد أحداً من رجال الدولة السابقين يتجرأ ليملأ الفراغ ويقدم لنا تنظيراً عميقاً، حتى لو كان مخالفاً بالرأي للرجل.