يتجاوز تركيز الورقة النقاشية الملكية السادسة على مفهوم دولة القانون، الجانب النظري أو الفلسفي لرؤية الملك للدولة ومفهومها وسماتها، كما يطمح إليها، إلى الجانب التطبيقي والسياسات العامة في المرحلة المقبلة.
هناك اليوم “ورشة عمل” في أروقة القرار للتفكير في كيفية ترجمة ما طرحته الورقة عن “دولة القانون” عبر سياسات وقرارات تحمل جميعاً رسالة واضحة للمجتمع، بأنّ هناك إصرارا وجدية رسميين في تطبيق القانون على الجميع؛ من المياه إلى المدارس إلى القبولات الجامعية (إذ جرى تحويل المكرمات العشائرية إلى وزارة التعليم العالي، ووفق نظام محوسب من العام الحالي)، والكهرباء، وحتى مخالفات السير، إذ سيتم اعتماد نظام جديد يبلغ المخالفين عن مخالفاتهم، بخاصة من يلقون بالنفايات إلى الشارع من سياراتهم.
من تتبع “سلوك الدولة” خلال العامين الأخيرين، سيلحظ أنّ قرارا اتخذ على مستوى السياسات العليا في البلاد بتطبيق سيادة القانون، بعد أن شعر “مطبخ القرار” بوجود تهاو في هذا المفهوم وتنمّر على القانون، وانتشار ظواهر خطيرة في المجتمع، وكان المصطلح الدارج في أوساط رسمية وإعلامية هو “هيبة الدولة”، فتم استبداله بمصطلح “دولة القانون” من أجل إعطائه الصيغة الدقيقة المطلوبة في وعي المواطنين.
بدأت العملية بامتحانات الثانوية العامة، ثم في وضع حدّ لسرقات المياه، والمواجهة مع أصحاب السوابق والخارجين على القانون والبؤر التي أصبحت ظاهرة محدودة في تلك الفترة، ثم تمّ التعامل مع ظاهرة “سرقة السيارات”. وبدت الدولة تستعيد السيطرة بصورة ملحوظة وقوية، وأنّها تسير في الاتجاه الصحيح لاستعادة ثقة المواطن بالقانون والنظام.
من الضروري، في الشأن نفسه، النظر إلى مفهوم “دولة القانون” في سياق أكثر عمومية، وعلى أكثر من صعيد؛ قصير المدى وبعيد المدى، وما يرتبط بقرارات ورسالة إعلامية مهمة، وما يتعلّق بتكريس ثقافة معينة، من خلال سلوك الدولة ومناهج الجامعات والتربية والتعليم؛ ما هو متعلق بالحياة اليومية والعلاقة بين الفرد والأمن والدولة.
تكريس مفهوم دولة القانون في وعي المواطن وإدراكه، يتمثّل (أولا) في وضع خطة مبرمجة لتطبيق مبادئ الحاكمية الرشيدة والشفافية في بنية الدولة وقراراتها وسلوكها، مثل التعيينات العليا، وحق الحصول على المعلومة، والمساءلة ومحاسبة المسؤولين، وتعزيز معايير النزاهة ومكافحة الفساد الإداري والسياسي. وأهمية هذه الرسالة السياسية تبدو في مواجهة قناعات خطيرة بدأت تتعزز لدى قطاع واسع من المواطنين، تتمثل في فقر شديد في الثقة بمؤسسات الدولة ومصداقيتها، فلا بد من السير في رحلة التعافي من هذه الأمراض الخطيرة.
خلال الفترة الماضية انتشرت ظاهرة (أصبح هناك اعتراف رسمي غير معلن بها) تتمثل في الرشى لدى موظفين في الدولة، في العديد من المؤسسات. مثل هذه الظاهرة خطيرة ومرعبة، من الضروري وقفها قبل أن تصبح “حقوقا مكتسبة”! ومتجذّرة في ثقافة الموظفين وسلوكهم. ولا بد من تفعيل مبادئ الرقابة والمحاسبة، وملاحقة المتورطين ومعاقبتهم على الملأ.
المستوى الثاني من التفكير في دولة القانون يتمثل في إعداد برنامج حقيقي وفاعل في مواجهة التهرب الضريبي، وهو “معضلة” حقيقية. ذلك يتطلب تشديد التشريعات والسياسات والعقوبات، وفي الوقت نفسه تنوير المواطنين بالقوانين الضريبية وتطوير المؤسسة وآلياتها التي ما تزال ضعيفة وفيها مساحات يمكن من خلالها تمرير “التهرب الضريبي” بصورة قانونية، كما تفعل العديد من الشركات للأسف.
الواسطة والمحسوبية ثقافة تحتاج إلى عملية كبرى، أو انتفاضة رسمية ومدنية وإعلامية لبناء ثقافة مغايرة.
دولة القانون هي صنوان الدولة المدنية، وقاعدة صلبة لبناء نظام ديمقراطي مستقر، واستقرار اجتماعي وأمني عميق.