عروبة الإخباري- تحمل معركة استعادة الموصل الكثير من الدلالات المحلية والإقليمية والدولية، وهي مهمة للولايات المتحدة مثلما هي مهمة للقوات العراقية التي تكبدت في المدينة هزيمة منكرة على يد مئات من المقاتلين الأيديولوجيين المتحمسين الذين احتلوا المدينة في حزيران (يونيو) 2014 وتحصنوا فيها باعتبارها من أكبر التجمعات الحضرية التي سيطر عليها التنظيم. والمدينة تحمل دلالة رمزية ويوتوبية لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي الذي ظهر المرة الأولى والأخيرة في صورة «أيقونية» من على منبر الجامع النوري وبشر المسلمين في كل أنحاء العالم بولادة «الخلافة» ودعا الشباب للهجرة إلى الأرض الجديدة التي الغيت فيها حدود سايكس- بيكو. ومن هذه الأرض الموعودة المفتوحة للجميع خرجت عقيدة «باقية وتتمدد». كانت «الدولة» في بدايات خروجها قوة عصية على الهزيمة، جمعت بين الحرب التقليدية وحرب العصابات الخاطفة وكيفت التكتيكات العسكرية إلى أعلى درجات القسوة، فقد تحولت السيارة الإنتحارية لرتل من الشاحنات ونشرت رعبها عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بطريقة فنية مثيرة للتقزز وأتقنت فن الدعاية والنشر من خلال أشرطة فيديو عالية الحرفية. ومنذ خروجه أصبح تنظيم الدولة «ظاهرة» جهادية ومجالا للبحث صدرت حوله مئات الكتب وكتبت عنه آلاف التقارير، فهو تارة من أغنى التنظيمات الجهادية في العالم وأخرى قائد الحركة الجهادي العالمية. وهو التنظيم الذي يسيطرعلى منطقة تساوي مساحتها أرض هولندا أو بريطانيا.وغير ذلك من الأوصاف.
مرحلة التدهور
واليوم وبعد إعلان الحكومة العراقية عن بداية معركة الموصل في 17 تشرين الأول (أكتوبر) أصبح التنظيم ظل نفسه ولم يعد يسيطر إلا على مساحة بسيطة لا تساوي مساحتها دولة سريلانكا. ومنذ العام الماضي لم يربح ولا معركة واحدة، فقد خسر تكريت والرمادي والفلوجة. وخرج من شمال سوريا وتدمر في الوسط ولم يبق بيده سوى البلدة الصحراوية، الرقة التي تعتبر العاصمة الفعلية للخلافة. ومعظم التقارير التي نقرأها يوميا تقول إنه تنظيم في حالة رثة مخترق من أجهزة المخابرات الغربية خاصة البريطانية (إندبندنت 20/10/2016) أو يواجه مقاومة قريبة وثورة في الموصل (الغارديان 20/10/2016) وهناك حديث عن حركة اسمها «سرايا الرماح» جاهزة للتحرك مع وصول القوات العراقية، فيما قام مواطنون بالتعبير عن رفضهم للجهاديين بكتابة حرف «م» أي مقاومة على جدران المدينة كما أوردت «نيويورك تايمز» (17/10/2016).
المهم الرسالة
وفي سياق آخر يظهر التنظيم اليوم مجردا من أيديولوجيته القيامية وانسحب جنوده بدون قتال من ساحة المعركة الأخيرة في دابق (واشنطن بوست، 16/10/2016). ومع تقدم القوات العراقية ومقاتلي البيشمركه والمقاتلين السنة تحدث عسكريون في البنتاغون عن هروب قادته من المدينة فيما تحدث مسؤولون أمريكيون عن تحول التنظيم من دولة إلى حركة تمرد عسكرية جاهزة لتوجيه ضربات للحكومة العراقية وإرسال مقاتليه للقيام بعمليات خارجية (ديلي بيست، 20/10/2016). وقالت صحيفة «نيويورك تايمز» (19/10/2016) إن التنظيم الذي واجه نكسات في الآونة الأخيرة بدأ يضع الأسس في الأشهر الماضية لإستمرار الجاذبية الأيديولوجية. وبهذه المثابة فسقوط الخلافة لا يعني الهزيمة. وجاء في صحيفة «النبأ» التابعة للتنظيم أن «الجيل الذي عاش في ظل الخلافة أو شهد المعارك العظيمة سيواصل ـ إن شاء الله ـ رفع الراية عالية». وذكر كاتب المقال أجيال «الخلافة» أن الجهاديين السابقين انسحبوا إلى الصحراء بعد الهجوم الأمريكي عليهم ليظهروا من جديد في سوريا ويتمددوا مرة جديدة في العراق. ونقلت الصحيفة عن الخبير في تنظيم الدولة ويليام ماكانتس قوله إن الجهاديين في أثناء حصار دابق حاولوا جاهدين شرح أن المعركة القادمة فيها «لن تكون معركة دابق الأخيرة». وأشار إعلام الجهاديين أن سبب عدم وقوع الملحمة الأخيرة في البلدة الصغيرة هو عدم توافر الشروط اللازمة مثل وصول الجيش الصليبي أو ظهور المهدي. إلا أن نقاد التنظيم تعاملوا مع سقوط دابق على أنها صورة عن تداعي رؤيته، خاصة أن مجلته حملت اسم البلدة. ورغم سخرية البعض من هذه التبريرات إلا أن محللين يرون في خطابه الجديد دليلا على براغماتيته ومرونته أمام التحولات التي تصيبه. وكان المتحدث باسم التنظيم أبو محمد العدناني الذي قتل في آب (أغسطس) أكد أن مصير التنظيم لا يرتبط بقيادي. وبعيدا عن مآلات الحركة الجهادية التي تحولت لمركز جذب للجهاديين من كل أنحاء العالم وبنت مواقع تأثير لها من غرب أفريقيا إلى جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، فالسؤال الملح مرتبط بمدينة الموصل.
مظلومية السنة
في بداية الشهر الحالي خصصت مجلة «إيكونوميست» محورا حول أزمة العالم العربي (8/10/2016) تحدثت فيه عن مظلومية العرب السنة. وقالت إن من يكتوي اليوم بنار الحرب هم السنة مع أنهم يمثلون أكبر تجمع إثني في المنطقة وهم ورثة حضارات عظيمة إلا أن حواضرهم العظيمة باتت في أيدي غيرهم: اليهود في القدس والمسيحيون والشيعة في بيروت والعلويون في دمشق وفي الفترة الأخيرة الشيعة في بغداد. ويشكل السنة معظم اللاجئين في المنطقة، وفي المناطق التي يحكم فيها السنة يشعرون بالحصار من إيران وتخلي ولا إبالية الولايات المتحدة عنهم. وقالت إن حالة الحصار التي يشعر بها السنة من كل جانب تفسر ظاهرة تنظيم الدولة الإسلامية الذي أعلن عن إحياء نظام الخلافة القديم. ومن هنا «فلن يكون الإنتصار على الجهاديين كاملا ولن ينجح أي حل دبلوماسي بدون التعامل مع حالة الإقتلاع التي يعاني منها السنة». وقالت المجلة إن مصير السنة اليوم يعتمد على مصير مدينتين عظيمتين: حلب التي تعتبر آخر معقل للمعارضة السورية المسلحة التي تقاتل نظام الأسد ووصفها الأمين العام للأمم المتحدة بأنها اليوم مسلخ، والموصل التي تعتبر أهم مركز حضري يسيطر عليه تنظيم الدولة في العراق. وترى أن «سلوك» ما بعد المعركتين سيقرر مسار الحروب البربرية التي تواجه المنطقة العربية. وتقول إن أفضل أمل لتحقيق الإستقرار بالمنطقة لا يكون إلا عبر الفدرالية واللامركزية التي تعطي السنة وغيرهم صوتا ودورا واضحا. وتعتقد أن حلب تظل رمزا لأسوأ تدخل عسكري خارجي، فالروس يساعدون النظام السوري وحلفاءه الإيرانيين والشيعة الذين يقومون بدك معاقل المعارضة السنية المحاصرة. إلا أن الموصل تحمل ملامح تغيير وهذا يعتمد على الكيفية التي «سيتصرف فيها المنتصرون في مرحلة ما بعد تنظيم «الدولة.
التعامل بحكمة
وفي عددها الاخير (22/10/2016) عادت المجلة وقالت إن الطريقة التي ستتم فيها السيطرة على المدينة ستحدد فيما إن كان النصرعلى الجهاديين تاما أو أنه مرحلة جديدة من معاناة لا نهاية لها في العالم العربي. وترى أن الطريق لاستقرار العراق مرتبط بقادته وقدرتهم على استيعاب السنة ومنحهم صوتا في الحياة السياسية. ولو تمت العملية بطريقة جيدة فلن تؤدي لتحرير مليون عراقي أو أكثر يعيشون تحت حكم تنظيم الدولة الوحشي بل وستريح العالم. وترى أن الأسابيع والأشهر المقبلة لن تكون سهلة. فلا أحد يستطيع التكهن بالطريقة التي ستتكشف عنها المعركة. فعندما تمت استعادة الرمادي، قاتل التنظيم وتم تدمير معظم المدينة وتشريد سكانها. وتقول إن معظم المقاتلين في الموصل وقادة التنظيم ربما خرجوا من المدينة. وتدعو إلى أهمية تعامل «المحررين» مع السكان بطريقة حذرة. ويجب أن لا تتحول الموصل إلى حلب جديدة. وعوضا عن ذلك يجب أن تكون معظم التحركات محسوبة ويجب تجنب أذى المدنيين وحراسة المناطق بعد طرد التنظيم منها. وهناك حاجة لتوفير المساعدات الإنسانية للعناية بمن فر ومن اختبأ في بيته. وعليه يجب تجنب أي مظهر من مظاهر الطائفية ومنها سيطرة شيعية على المدينة، فهي والمناطق المحيطة بها تظل مناطق سنية ويجب أن تتمتع بنوع من الإستقلالية/الحكم الذاتي. كما ويجب حماية حقوق الأقليات فيها سواء كانت مسيحية وأزيدية وتركمانية. وهناك حاجة لمنع القوى الخارجية الراغبة بالحصول على قطعة منها من الدخول إليها، كردية كانت أم شيعة وإيران وتركيا.
إعادة الإعمار
ومهما كانت نتيجة المعركة فلو قرر التنظيم القتال حتى النهاية، فهذا يعني دمارا للمدينة. وتقول صحيفة «نيويورك تايمز» (18/10/2016) «لو كان التاريخ دليلا، فستتحول أجزاء كبيرة من الموصل التي كانت ثاني المدن العراقية يسكن فيها مليوني نسمة إلى أطلال مشتعلة بعد انسحاب المقاتلين الذين قاتلوا حتى النهاية والذين قد يستخدمون ما تبقى من المدنيين كدروع بشرية وقد يفخخون الأحياء بقنابل بدائية الصنع، فتنظيف هذه المتفجرات يحتاج لأشهر». فالسيطرة على الموصل ستكون أكثر تعقيدا وإعادة بنائها فيه تحديات كبيرة خاصة أنها الأكبر من بين «فتوحات» تنظيم الدولة وتحتوي على تنوعات سكانية واسعة من سنية وشيعية ومسيحية وكردية.
مهمة لأمريكا
وفي النهاية تعتبر معركة الموصل مهمة للولايات المتحدة فالمعركة كما تقول «كريستيان ساينس مونيتور» (19/10/2016) لا تعتبر فحصا مهما للتأثير الأمريكي بالمنطقة فقط ولكن كنموذج جديد لمكافحة الإرهاب. وبحسب ألين غولدبنرغ، مدير برنامج الأمن في مركز الأمن الأمريكي الجديد بواشنطن «ما عثر عليه أوباما هو طريقة جديدة للقيام بمكافحة الإرهاب لا تشبه نموذج جورج بوش بنشر 150.000 ولا صفر وجود في العراق». وأضاف «إذا كان هذا النموذج المكون من عدد قليل من الجنود الأمريكيين المرفقين مع القوات الأمنية ناجحا في استعادة مدينة كبيرة، فسيتحول إلى طريقة دائمة للتعامل مع ملاجئ الإرهاب الآمنة التي تهدد أمن الولايات المتحدة القومي». ويقول الخبراء إن المعركة ستحدد مصداقية الولايات المتحدة الدبلوماسية والعسكرية بالمنطقة في الأعوام المقبلة.
وبحسب جيمس جيفري، السفير الأمريكي في العراق الفترة ما بين 2010- 2012 «لو تمت إدارة العملية بنجاح فستقوم بإعادة بعض الثقة بالقدرة الأمريكية وستعيد بعض المصداقية لالتزامنا للعمل مع أصدقائنا وحلفائنا في المنطقة». وبهذه الطريقة يقول الكاتب إن الموصل تمثل تطورا مهما لمدخل أوباما «القيادة من الخلف» في الشرق الأوسط. ويعلق جيفري «في الموصل، نشاهد نوعا مختلفا من المشاركة، فبدلا من الوقوف في الخلف فإننا نظهر التزامنا من خلال المشاركة في القتال». وأكدت الولايات المتحدة للعراقيين أن القادة الأمريكيين لن يقفوا متفرجين في حالة تعقد المعركة بل سيشاركون القتال مع العراقيين». وفي حالة هزمت الولايات المتحدة «الدولة» في الموصل وأعادت دمج المعقل السني في الحياة الوطنية السياسية والاقتصادية فستكون رسالة قوية. ويقول أنتوني كوردسمان، محلل شؤون الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن إن «النجاح في الموصل والعراق سيعزز مصداقية الولايات المتحدة وتأثيرها» و «ستساعد بمواجهة نجاح روسيا في سوريا وتحديد دور إيران وإعادة قدر من الثقة عند حلفائنا العرب».(القدس العربي)