عروبة الإخباري – الجمهور الذي يتفهم زيارة ابو مازن لموقع العزاء بالرئيس الاسرائيلي شمعون بيرس هو اكثر من الجمهور الذي شجب الزيارة , فالذين شجبوا قالوا ورفعوا اصواتهم وأشغلوا شبكات التواصل الاجتماعي باراء اخذت مستويات عديدة اغلبها أميل للشتم الذي لايكاد يكون له علاقة مباشرة بالزيارة او يفند سيئاتها ، اما الذين أيدوا الزيارة او تفهموها فلم تظهر لهم اصوات ولم يعلنوا مواقفهم في العلن الاّ ما ندر وهذا أمر معروف في كثير من القضايا العامة الخلافية .
والحقيقة التي لا يجوز تجاوزها او الهروب منها للامام او البحث عنها خارج السياق المكاني والزماني ومعطيات الواقع هو ان الجار العدو الاسرائيلي مفروض في الجغرافيا والصلات وليس معزولا من سياق التعامل اليومي لشعب تحت الاحتلال ..
ماذا تعني المقاطعة وماذا تعني مشاركة الرئيس عباس في العزاء !!
المسألة في الاختيار والحسم ليست سهلة على قائد يتحمل المسؤولية أيا كانت افكاره ومواقفه الشخصية , ولكنها سهلة على فرد مواطن يحس بمشاعر خاصة قوية وعميقة ازاء عدو يحتل ارضه .. اولئك الذين شجبوا الزيارة انما فكروا من داخل الصندوق واعطوا لانفسهم حرية التفكير دون ادراك لخصوصية الحالة الفلسطينية واشتباكها وتعقيداتها ..
نحن لا نروج لهذه الزياره .. انها دواء مرّ لا يرغب احد في تناوله وكأس حنظل لا يشتهيه ابو مازن او من هو في مكانه فلسطينيا .. و الاّ ما كان الملك الراحل الحسين بحاجة الى ان يذهب بنفسه لزيارة الامهات الاسرائيليات الثكلى في حادث الباقورة قبل حوالي عشرين سنة حين اقدم احد الجنود الاردنيين على قتلهن، وقد ترتب على الامر مخاطر وطنية .. يومها افتدى الملك بكثير من سمعته مخاطر المس بالوطن الاردني فامتص ردّة الفعل الاسرائيلية على حسابه الشخصي ومشاعره حين اقدم على ان يجثوا على ركبتيه امام النساء الثكلى في مشهد مؤثر يثير الغضب والحزن حين كنت ارى الملك في تلك الحالة التي وضعته موضعا صعبا لا خيارات عديدة فيه .
هناك من رأى ان الزيارة الملكية لموقع عزاء الطالبات المقتولات لا ضروره له وان ما جرى جزء من معركة مفتوحة، وهذه الرؤية كانت تصدر عن اشخاص لا يهمهم كثيرا التداعيات التي تحصل بعد ذلك وان همهم فهم يرون طريقا للتعامل مع الاسرائيليين مختلف .
يستطيع الرئيس ابو مازن ان لا يذهب الى العزاء .. ولكنه لا يستطيع ان اراد ان يواصل نهجه وان يبقى في موقع المسؤولية وان يدير دفّة قيادة الشعب الفلسطيني والالتزامات المترتبة على القيادة بمواصفات الواقع القائم.
في الزيارة رسائل عديدة يجب ان تقرأ كلها سواء كانت هذه الرسائل في انعكاساتها سلبية ام ايجابية , فالزياره لا تندرج في العمل الشعبي او الجماهيري او العمل الانساني .. انها سياسية بامتياز، حيث يحتشد في العزاء اكثر من (90) دولة يمثل اكثرها برؤساء تلك الدول .. وهذه الدول جاءت من خلال التزاماتها الدولية و رؤيتها للاخر.
صحيح ان دولا لم تشارك وان قادة لم يحضروا ولكن فلسطين رهينة حالتها ورهينة الجغرافيا والتشابك , لم يكن قرار الذهاب الى المشاركة في عزاء بيرس سهلا ولم تكن الزيارة ” شمة هوا ” وانما خوض حالة من الاكتئاب و الاصابة بنوبة جديدة منه , والذين كانوا حول الرئيس نصحه اكثرهم ان لا يذهب من موقع الذي لا يرى رؤية شمولية للمشهد والقليلون نصحوه بالذهاب من منطلق المصلحة العليا وخدمة بقاء فلسطين شريكة, ولو كنت مستشارا لنصحته ان يفعل .
لا نريد ان نهرب الى نصوص التاريخ لنستشهد به لمثل هذه المناسبات فذلك امر فيه توظيف قد لا يكون مستساغا امام اللحظة السياسية التي لا يجوز ان تختبئ وراء التاريخ وانما يجب ان تكون تاريخا في حد ذاتها .. فليس من باب التبرير القول بزيارة صلاح الدين الايوبي ل ريكاردوس قلب الاسد ملك الفرنجة في القدس اثناء مرضه وحمل الدواء له وغير ذلك قصص ومشاهد ومواقف كثيرة .
زيارة ابو مازن التي اثارت غيظ وغضب الكثيرين هي استحقاق مرّ وصعب لا نملك ازاء دفعه الا القول: كان الله في عونك ايها الرئيس وفي عون من هو في موقعك. والذين زايدوا عليك من خلال خنادق سياسية يدركون انهم سيفعلون نفس الفعل وسيقفون نفس الموقف لو كانوا في الموقع ولكن السياسة وانتهازيتها تملي على المزايدين ان يرفعوا اصواتهم ليس فقط لكراهية الزيارة وانما لمعارضة الرئيس في الدرجة الاولى ..
نحن لا نتكلم هنا عن مواقف الشارع العادي الذي يستحضر امام المشهد المجازر الاسرائيلية المتعاقبة ضد الشعب الفلسطيني والتعنت الاسرائيلي المستمر ضد عملية السلام وضد حقوق الشعب الفلسطيني وخاصة حقوقه السياسية غير القابلة للتصرف .. وانما نتكلم عن مواقف سياسية محسوبة تفرض على الرئيس ان ينخرط فيها امام مختلف دول العالم ..
انا من الذين يعتقدون ان زيارة ابو مازن للعزاء اسقطت مقولات نتنياهو عن الرئيس الفلسطيني و الشعب الفلسطيني في انه ليس شريكا وهي المواقف التي تاجر فيها نتنياهو واكل بها في رأس الكثيرين من قادة العالم حلاوة ..
لم يكن نتنياهو وحزبه ونهجه سعيدا بزيارة الرئيس عباس التي فاجأته والتي لم يكن له فيها فضل الدعوة بل ان المعزى به هي التي دعت الرئيس عباس لمثل هذه اللحظة التي التقطها الرئيس ليترجمها عملا سياسيا اعتقد انه يصيب لمصلحة ما يعتقد به الرئيس من رؤية في التعامل مع القضية الفلسطينية ..
وعلى الذين اكتفوا بقراءة وجه ابو مازن والحكم عليه ان يبحثوا عن ما هو ابعد واعمق من ذلك فالمسألة كما قلت سياسية وليست انسانية , وان اخذت شكلا البعد الذي توقف عنده البعض ..
لا اقول ان الزيارة ليست خلافية او انها لا تثير موجة من الاسئلة والتداعيات , ولكن اقول ان هناك اكثر من اجتهاد فيها ولعل موازين القوى وطبيعة الصراع والتشابك فيه لا يعطي مجالا واسعا لخيارات متعددة .. الزيارة سياسية وفيها رسائل لعالم شريك و هام و مؤثر وهي جزء من علاج لحال فلسطينية لا تتغير بمجرد المشاعر او الرغبة العابرة او الامنيات ..
والذين حرضوا ضد الزيارة نوعان : نوع ينطلق من مشاعره وهذا حقه فالجرائم الاسرائيلية اكثر مما تحصى واصعب من ان يقفز عنها او تغمض العيون عليها .. والنوع الثاني هم من زايدوا على ابو مازن وارادوا لبقرته ان تقع لتتكاثر عليها السكاكين لكن الرجل الذي لا أشكك في وطنيته وشجاعته لديه من رجاله من يرون رؤيته ومن يواصلوا تحمل المسئولية الى جانبه دون ان تغرهم الحالة الشعبية وان كانت جزء من رأسمال من يعملون بالسياسة .
أبو مازن في اعتقادي صاحب رؤية قد لا تتحقق في زمنه , لكنه ينسجم مع نفسه و رؤيته وهو يرى ان بديلها غير جاهز او ناضج , وان زمن المعاناة ما زال مستمرا وهو لا يدفع بعيدا بالامنيات وانما بالعمل وتراكمه وبالظروف الموضوعيه المساندة .
أخيرا اود القول للمشفقين على الرئيس او ما زالوا مترددين .. “ما ضل صاحبكم وما غوى ” ان هي الا قضية يعمل فيها ومن اجلها من منظور يراه وقد لا يراه غيره .. فوسعوا له الاجتهاد وخذوا عمله على احسنه .