المحلل السياسي للأحداث والتطورات الجارية، ليس عرّافاً من سوية المنجمين الذين يقرأون الطالع، وليس الخبير العسكري الاستراتيجي من الذين يستشرفون المستقبل بذهنية قارئة الفنجان؛ وإنما هو من ذوي القدرة عالية على فهم مغزى الوقائع اليومية، ومقاربة المتغيرات المحتملة بعين ترى أبعد مما يراه القارئ والمشاهد، إما بالاستناد إلى خبرات مكتسبة من الميدان العسكري أو حقل “الأكاديميا”، وإما من دروس وعظات تجارب حياتية متراكمة.
ازدهر الطلب على هؤلاء المحللين في غمرة حالة الاضطراب والفوضى التي عمت العديد من البلاد العربية مؤخراً، واشتدت المنافسة على استضافتهم، بين منابر الإعلام ومنظمي الندوات ومراكز الأبحاث. إذ امتلأت صفحات الصحف، والبرامج الحوارية على القنوات الإخبارية، برهط من الجنرالات المتقاعدين والساسة المخضرمين وأساتذة العلوم السياسية والصحفيين، ممن لهم قدرة لافتة على عرض وجهات نظرهم بصورة متماسكة.
فاجأ أحد هؤلاء المحللين المفوّهين، وهو أستاذ جامعي يعيش في بريطانيا، جمهور مشاهديه، الأسبوع الماضي، حين اعترف بعظمة لسانه، أن تحليلاته السياسية على مدى السنوات الخمس الماضية كانت خاطئة، وأن سائر مقارباته حيال الصراع الجاري في سورية، على وجه الخصوص، ضلت المسار الصحيح. وبجرأة تسجل له، أبدى هذا المحلل الذي كان يتنقل في اليوم الواحد بين عدة قنوات تلفزيونية، شيئاً من الاعتذار، وطلب ما يشبه المغفرة من المشاهدين المدمنين على سماعه.
والحق أن جل المحللين أخطأوا في مطالعاتهم لمجريات الحرب على سورية في المقام الأول، وفي فهم كنه تحولات الصراع المديد الناشب في العراق بدرجة ثانية، ناهيك عن مسارات الأزمتين الليبية واليمنية. الأمر الذي يمكن القول معه إن خطأ الأستاذ الجامعي المشار إليه آنفاً، لم يكن حالة شاذة. فيما تبدو شجاعة الاعتراف بخطأ الافتراضات والتقديرات لدى هذا المحلل المستقل، هي الحالة غير المسبوقة من جانب رفاقه الذين يتدفقون على الشاشات علماً ومعرفة وبلاغة.
يقتضي الإنصاف ضرورة القول إن تطورات الحرب المتفاقمة في سورية، على وجه التحديد، قد خذلت افتراضات المحللين السياسيين والعسكريين وغيرهم من المراقبين،؛ وإن متغيراتها المتسارعة قد هزمت بعض المراهنين على كسب هذه الجولة أو تلك، أو انتصار هذا الفريق أو ذاك في نهاية مطاف قريب، أو حتى تحقيق انفراج محتمل، عقب التوصل إلى هدنة مؤقتة أو اتفاق جزئي. وهو تقدير موقف أحسب أنه ينطبق أيضاً على تقديرات المتحاربين المحليين، واللاعبين الإقليميين والدوليين.
إذ قليلاً ما التفت المحللون النابهون لمدخلات هذا الصراع الذي يشتد طوراً بعد طور في البلاد الشامية، ويتعقد أكثر فأكثر مع تزايد عدد المنخرطين فيه. إن الحالة السورية المفتوحة على سائر الاحتمالات غير المتوقعة من قبل، قد بلغت درجة قصوى من الاستعصاء، حتى لا نقول استحالة الحل في المدى المنظور، وخرجت منذ مدة طويلة عن سيطرة المتحاربين والرعاة والداعمين، بما في ذلك القوى الدولية والإقليمية ذات الحسابات المعقدة، والمصالح المتضاربة، والسياسات الملتبسة، رغم كل ما تجريه من مساومات تحت الطاولة.
ومع تعذر حسم الحرب السورية بنصر عسكري يحققه هذا الطرف أو ذاك، بضربة فنية مفاجئة، أو بعدة جولات إضافية على حلبة الملاكمة، وبعد أن حشدت الأطراف المتجابهة حشدها، وبذلت كل ما في وسعها، وربما استنزفت نفسها، فإن من المؤسف القول؛ إن الحل السياسي في هذا البلد المنكوب بات متعذراً هو الآخر، أقله في المدى المتوسط، الأمر الذي تتجلى معه أشد مظاهر هذه المأساة رعباً، وأكثرها مدعاة لليأس والإحباط.
وعليه، فإن اعتراف ذلك الأستاذ الجامعي بخطأ تحليلاته السابقة، لاسيما إزاء الحرب في سورية، يعد فضيلة لا يقدر عليها سوى أصحاب الرأي الموضوعي، وذوي الشجاعة الأدبية التي تفتقر لها أكثرية نظراء هذا المحلل السياسي، ممن يطرحون آراءهم بثقة زائدة عن الحد، معولين على ضعف ذاكرة المشاهدين والقراء، ناهيك عن انعدام اللوم أو المساءلة.