يصف خبراء غربيون ما يحدث اليوم في المنطقة العربية بأنه حلف بغداد 2، ويشمل روسيا وإيران وتركيا، ومعهم تابعون، كلّ من الحكومة العراقية والنظام السوري وحزب الله. ولا تغيب إسرائيل عن هذا المشهد، إذ على الرغم من أنها ليست جزءاً من التفاهمات التي تجري حالياً حول الوضع في سورية، بين الدول الإقليمية المعنية، إلاّ أنّها (إسرائيل) على اطلاع وعلم بما يجري، ويحمي مصالحها.
بالضرورة هنالك اختلافات كبيرة وعديدة بين حلف بغداد 1 والتفاهمات الراهنة (التي يطلق عليها حلف بغداد 2)، فالأول أسّس على فكرة حماية دول المنطقة من الوقوع في يد الشيوعية، فتأسس من الدول الإقليمية (إيران، تركيا، باكستان) برعاية بريطانية، ومعهم العراق عربياً. بينما يجري حلف بغداد الحالي لترتيب شؤون سورية، والتفاهم على ملفات الأمن الإقليمي في حوار إيراني- تركي، وبشراكة روسية.
ربما يقودنا ذلك إلى “المشاكلة” المقصودة بين ما جرى في 1955 وما يجري اليوم 2016، يتمثل في حضور الدول الإقليمية في التأثير على ما يحدث في المنطقة، إذ لا يؤثر ما يجري في سورية عليها فقط، بل يساهم في ترسيم مستقبل المنطقة بأسرها.
في حلف بغداد1، كانت هنالك تحولات سياسية عبر ظاهرة الانقلابات، في كل من سورية والعراق، قبل أن تتحول العراق، بعد ثلاثة أعوام، إلى جمهورية، هي التي دفعت الدول الغربية إلى تشكيل حلف بغداد، من ثم بالرئيس الأميركي، ديفيد أيزنهاور، إلى إعلان مبدئه المعروف لاحتواء الشيوعية، ومنع امتدادها.
كان حينها جمال عبد الناصر النجم الصاعد، عربياً، وكان قد بدأ يقترب من روسيا، والدول العربية في حالة استقطاب وتجاذب شديد بين الدول المحافظة والأخرى التي أطلقت على نفسها وصف التقدمية، أما الآن فهنالك دول إقليمية، تحاول الوصول إلى تفاهمات وترتيبات حول مستقبل المنطقة، في غياب أي طرف عربي فاعل بصورة مباشرة.
على الرغم من أن النظام الإقليمي العربي كان، غالباً، مفكّكاً، منذ تأسيس الدولة القطرية العربية، بعد الحرب العالمية الثانية وحصول تلك الدول على الاستقلال عن الاستعمار؛ إلاّ أنه كان هنالك دوماً أطراف قوية تتنافس، ولها دور في الصراع، أي لم يكن هنالك فراغ استراتيجي، ولم تكن المنطقة العربية مكشوفة كما حالها الآن.
لكن، منذ انهيار نظام صدام حسين، وبروز النفوذ الإيراني في المنطقة، بدأ النظام الإقليمي العربي بالترنح، وكانت هنالك محاولات من بعض الدول المحافظة لتأسيس ما عُرف بـ”معسكر الاعتدال العربي” (مصر والأردن والسعودية والإمارات بدرجة رئيسة) لمواجهة ما أطلق عليه حلف الممانعة (سورية وإيران ومعهم حزب الله وحماس) مع حلول العام 2006، إلى أن بدأت موجة الثورات الشعبية العربية في 2011، فأسقُطت الزعامات، ورمزياً شرعية تلك الأنظمة، ومعهم النظام الرسمي العربي المنهك والبائس.
“لم يمد النظام العربي المحافط يده إلى تركيا، ولم يبن استراتيجيةً واضحةً في التعامل مع النفوذ الإيراني، وارتبك في التعامل مع التحولات السياسية الأميركية في العلاقة مع إيران”
حاول المعسكر المحافظ الاستدراك على ما حدث، وإعادة تأسيس شرعيته الإقليمية، عبر “الثورة المضادة”، وممانعة التغيير الديمقراطي، فدعم الانقلاب العسكري في مصر، وحاول استنساخه في ليبيا ومسابقته في اليمن، فأعاد تعريف مصادر التهديد لجعل الأتراك والإسلام السياسي المصدر الأول لهذا التهديد، ثم النفوذ الإيراني.
لم تساعد الثورة المضادة في إعادة إنتاج الديناميكية الإقليمية، بل تبين بسرعةٍ شديدة أن هذه الاستراتيجية زادت المأزق، وعزّزت حالة التفكّك والتبديد لهذا النظام، وبدلاً من مواجهة التحدي الإيراني، ولو حتى في الجلوس على الطاولة مع قادة طهران، غرقت الأنظمة العربية في صراع داخلي لممانعة التغيير ومواجهة قوى الإسلام السياسي، وفشلت في ترتيب البيت الداخلي بجدارة، وانكشفت الفضائح السياسية والعسكرية والاقتصادية بصورة سافرة أمام الجميع.
لم يمد النظام العربي المحافط يده إلى تركيا، ولم يبن استراتيجيةً واضحةً في التعامل مع النفوذ الإيراني، وارتبك في التعامل مع التحولات السياسية الأميركية في العلاقة مع إيران، ولم يدركوا كيفية التعامل مع التدخل الروسي الجديد، ما انعكس بوضوحٍ على كل من سورية والعراق واليمن وليبيا.
انتهت الأمور، إذاً، إلى مفاوضاتٍ ومحاولة الوصول إلى تفاهمات تركية- روسية- إيرانية، مع غياب أي دور أو طرف عربي، على الطاولة، ولا يخدع بعضهم نفسه بوجود كل من العراق وسورية في المحور الإيراني، فهذه الحكومات لا تملك القرار، ودولها يقرّر لها، ولا تقرر هي مستقبلها وخارطتها السياسية الجديدة.
بدلاً من النظام العربي الرسمي، أصبحت الدول الإقليمية، وحتى الدول الكبرى، تبحث عن شراكات مع المليشيات عابرة الحدود، أو المحلية، التي ظهرت بقوة في سياق اللحظة الراهنة والفراغ الرسمي العربي، فلإيران جيوش من هذه المليشيات في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، ويتحالف الأميركان مع الأكراد، ويساعدون الحشد الشعبي في العراق، وداعش يقاتل الجميع، وتركيا كانت تتبنى فصائل إسلامية في سورية.
حتى المليشيات، أو قوى المعارضة المسلحة التي اختار المعسكر المحافظ دعمها في سورية واليمن وليبيا، تعاني من التشتت والضغوط المتناقضة وتباين الأجندات بين بعض هذه الدول، خصوصاً مع الاستدارة السعودية غير المكتملة، في محاولة التقارب مع تركيا، قبل وقوع محاولة الانقلاب العسكري الأخيرة في أنقرة التي دفعت الأتراك إلى مراجعة حساباتهم الإقليمية مع المنطقة ومع الولايات المتحدة الأميركية والغرب.
ثمّة نقاط ضعف شديدة هي التي تكبل الدول المحافظة، وتمنعها من تحقيق أي إنجاز، على الرغم من محاولاتها التدخل في الملفات الساخنة، والتأثير في مستقبل المنطقة، وتكمن نقطة الضعف الرئيسة في أزماتها الداخلية الطاحنة، وإصرارها على ممانعة التغيير والإصلاح، وتخبطها في الأزمات الاقتصادية والتنموية، ما أدى إلى صعود الحركات الراديكالية في الداخل وتصديرها إلى الخارج.
نقطة الضعف الثانية عدم امتلاك هذا المعسكر رؤية استراتيجية واقعية واضحة، وبناء خطة عمل مدروسة لتوظيف أوراق القوة وحماية مصالحها الاستراتيجية وأمنها الوطني، فهي دولٌ تتخبط في المنطقة، وتتباين في رؤيتها لطريقة التعامل مع الحالات، السورية واليمنية والليبية، ومع العراق، وتحاول إخفاء هذه التناقضات بكل سذاجة.
في المقابل، لو قُدّر لمسار الربيع العربي أن يستمر، لكان الوضع الراهن مختلفاً بصورة جوهرية، فثمّة فرق بين حكوماتٍ تستمد قوتها وشرعيتها من الشعب، وتمتلك إرادتها، ولها مؤسساتها السياسية الفاعلة، فهذا العامل، بحد ذاته، مصدر حقيقي من مصادر القوة التي تفتقدها الدول العربية اليوم، في نظرة شعوبها إلى سياساتها، وفي نظرة العالم لها، حتى الدول الغربية والولايات المتحدة الأميركية التي كانت تنظر إلى هذه الحكومات، بوصفها حليفاً، فيما تنظر إليها اليوم بوصفها عبئاً ثقيلاً في اللعبة الإقليمية.