من أين لبنيامين نتانياهو أن يقول أن علاقات إسرائيل مع دول عربية «مهمّة» تشهد «انقلاباً» وتمرّ بمرحلة «تحوّل جذري»، في حين أن المعروف يقتصر على تطوّر متنامٍ للعلاقة مع مصر والأردن. وهذا متوقّع لأن الدولتين موقّعتان على معاهدتي سلام مع إسرائيل، لكن القاهرة وعمّان لم تفصحا أخيراً عن توافق استثنائي أو ارتقاء بـ «التطبيع» أو نقلة نوعية غير مسبوقة في العلاقات معها. والمفهوم أن نتانياهو لم يكن يعنيهما في حديثه عن الانقلاب والتحوّل، كما أنه لم يسمِّ الدول التي يعنيها، مفسحاً المجال للتكهّنات والتخمينات. فإمّا أنه يكذب، وإمّا أنه يروّج تمنياته بتصريحات استدراجية، أو أنه يكشف لجمهوره أن ثمة دولاً عربية تجري اتصالات مع إسرائيل لكنها تفضّل إبقاءها «سرّية» وكتمانها على الجمهور العربي. فلماذا يُعطى للإسرائيلي أن يشي عرباً عند عرب.
في كل هذه الاحتمالات بدا غير ممكن الردّ على رئيس أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرّفاً وتعصباً ضد العرب، وأكثرها إقبالاً على الإجرام ضد الشعب الفلسطيني، وأكثرها سرقةً للأراضي الفلسطينية وتشريعاً لهذه السرقة تحت اسم «الاستيطان». لم ينفِ أحد ما قاله نتانياهو، وطالما أنه لم يسمِّ فإن الدول المعنية تصرّفت على أنها غير معنية، رغم أنها إزاء طرف يلعب عليها علناً وبمنحى لا يخلو من ابتزاز، وهو لا يخاطبها وحدها بالإشارات المرمّزة بل يستغلّ اتصالها المزعوم معه ليقول للولايات المتحدة وروسيا أن إسرائيل التي كانت لسبعة عقود العدو الأول والوحيد للعرب باتت الآن موضع التماساتهم، وبالتالي الأكثر جهوزية لأن تكون لها كلمة في مخططات إعادة تركيب المنطقة العربية.
وبالنيابة عن تلك الدول الصمّاء وغير المعروفة في شكل سويٍّ وشفاف، قال نتانياهو أنها «تدرك أن إسرائيل ليست عدوّاً بل حليف وسند بمواجهة التهديدات الناشئة، كتهديد داعش». هذا الأسبوع جدّدت القمة العربية مطالبتها بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فهل يمكن أن يكون التعريف القانوني والسياسي لقوة الاحتلال بشيء آخر غير «العدوّ»؟ كما كرّرت القمة دعوتها الى تنفيذ القرارات الدولية القاضية بالانسحاب من كامل الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان العربي السوري والأراضي المحتلة في جنوب لبنان إلى حدود 4 حزيران (يونيو) 1967، فكيف يكون المحتلّ الإسرائيلي «حليفاً» و «سنداً» للعرب ضد محتلّين جدد اقتفوا أثره وحذوا حذوه في العبث بالأمن والسيادة وزعزعة الدول والمجتمعات؟ وإذ عاودت القمة للمرّة الثالثة عشرة تأكيد وجود «المبادرة العربية للسلام» على الطاولة كأساس لـ «حل شامل وعادل ودائم» للصراع العربي – الإسرائيلي يقوم على تصفية الاحتلالات مقابل تطبيع عربي كامل مع إسرائيل، فإن نتانياهو المغتبط بـ «التحول الجذري» في العلاقات مع «دول عربية مهمة» لم يغيّر موقفه من هذه المبادرة المعروف أن السعودية هي التي طرحتها وتبنّاها العرب منذ قمة بيروت عام 2002، بل إنه يطالب بتعديلها، وهو يريد عملياً طيّها ونسيانها، فعن أي «انقلاب» يتحدّث؟
كانت المبادرة العربية ولا تزال الخريطة الأكثر «واقعية» نحو تسوية عربية – إسرائيلية مستندة الى مرجعية القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. ولأنها واقعية فقد أخذت في الاعتبار أولاً أن العرب تخلّوا عن خيار الحرب واعتمدوا السلام خياراً استراتيجياً» وفقاً للقمم العربية المتوالية، كما سجّلت اعترافها بالاتفاقات التي توصّل اليها الفلسطينيون مع الإسرائيليين، بناء على تنازلات قدّمها الفلسطينيون أنفسهم وبقيت لفترة طويلة موضع جدل وأحياناً موضع مهاترة بين حكومات وعواصم وأحزاب وفصائل، ومع ذلك ارتضى العرب عموماً ما ارتضاه الفلسطينيون. غير أن الإسرائيليين أخذوا التنازلات وتنكّروا للاتفاقات ولم يفوا بالاستحقاق الأساسي المتوجّب عليهم: إنهاء الاحتلال… ولعل المبادرة العربية نصّت على ما يشكّل الحد الأدنى لأي تسوية متوازنة وقابلة للاستمرار، ولتكون كذلك لا بدّ أن ترتكز على مفهومين ضروريين ولازمين – الحق والعدل – لاعتبار الصراع منتهياً. وتُختصر المبادرة بأربع نقاط: 1) انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية في فلسطين والجولان السوري وجنوب لبنان الى حدود الرابع من حزيران 1967. 2) إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية. 3) حل عادل متفق عليه لقضية اللاجئين وفقاً للقرار الدولي 194. 4) إقامة علاقات عربية مع إسرائيل.
من الواضح أن نتانياهو يريد «أن تتم هذه العملية في شكل معاكس»، أي بدءاً من «التطبيع». إذ استعاد نقاشاً أجري في تسعينات القرن الماضي، عندما تأبطت الولايات المتحدة اتفاقات اوسلو (1993) للضغط على العرب من أجل الشروع في الانفتاح على إسرائيل وكأن السلام أصبح واقعاً ملموساً، وقد استجاب بعض الدول بإنشاء مكاتب تمثيلية أو شابه، غير أن الانحراف في تطبيق تلك الاتفاقات أظهر سريعاً أن الإسرائيليين والأميركيين ليسوا في صدد إنهاء الاحتلال بل يهدفون الى تثبيته، ما جعل معظم الدول العربية تفرمل «الهرولة» معتبرةً أن لا جدوى من «التطبيع» اذا لم يكن حافزاً على تصويب التوجّه نحو السلام. واليوم يقترح نتانياهو، كمن استلهم «رؤية» جديدة، أن ما قيل دائماً عن «أن توصّلنا الى اختراق في المفاوضات مع الفلسطينيين يمكننا من الوصول الى علاقات سلام مع العالم العربي» لم يعد عملياً.
طبعاً لديه أسبابٌ مستمدّة من الواقع العربي (حروب سورية والعراق واليمن وليبيا، وانهيار الدولة فيها، التغلغل الإيراني وتأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية…). لكنه لم يذهب في دعوته التطبيعية الى حدّ الحديث عن «سلام عادل» مع الفلسطينيين، وبدت إشارته الى «حل الدولتين» تضليلية لأنه وحكوماته لا يفعلون يومياً سوى قتل هذا «الحل». وحين دعا نتانياهو حكومته الى عقد جلستها الأسبوعية في الجولان المحتل (نيسان- ابريل الماضي) تقصّد أن يطلق رسالة الى العرب وكذلك الى القوى الدولية بأن الاحتلال تقادم الى حدّ أصبح الوجود الإسرائيلي يستلزم اعترافاً دولياً بـ «شرعيته». أي أنه بدأ يتصرّف على أساس أن سورية، كدولة، لم تعد موجودة لتطالب بأرضها المحتلة. والواقع أنه يتصرّف بهذا المنحى حيال الفلسطينيين وأرضهم ووجودهم وتراثهم الإنساني. وفيما تشهر إسرائيل ملفات ممتلكات اليهود أو أماكنهم المقدسة في بلدان عربية عدة، فإنها لا توفّر فرصة لإعطاء أبشع نموذج لانتهاك حقوق الفلسطينيين ومقدساتهم بما فيها المسجد الأقصى، ولا تزال تهدم بيوتهم وتأسر ألوفاً منهم من دون اتهامات أو محاكمات كما ترسل عسسها ومستوطنيها لإتلاف الحقول واقتلاع أشجار الزيتون… ويطمح نتانياهو إلى أن يعترف له العرب بـ «شرعية» كل هذه الانتهاكات وبجرائم الحرب التي يرتكبها مع جنرالاته، متقبّلين استغلاله خطر «داعش» أو تهديدات ايران وادّعاء المساعدة في مواجهتهما، فيما تتطلّع إسرائيل وايران استراتيجياً الى تطبيع وتفاهم بينهما على حساب العرب.
بعد إعلان الرئيس عبد الفتاح السيسي عن مبادرة (منتصف أيار- مايو الماضي) عن مبادرة لإحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، سارع الى الترحيب بها وحاول استخدامها لصرف النظر عن المبادرة الفرنسية لكنه استغلّها للقول أنه مستعدّ «للعمل مع الدول العربية لمصلحة عملية السلام». وبعد لقائه مع الوزير سامح شكري (10 تموز- يوليو) كرر نتانياهو وضع ترحيبه بالتحرك المصري في اطار ما سمّاه «مبادرة أوسع في المنطقة» ما يعني إشراك دول عربية فيها. وقبل ذلك بأيام قليلة كان أعطى موافقته على خطط جديدة لتوسيع مستوطنات. فإذا كانت هناك دولٌ تتجه الى «التطبيع» مع إسرائيل، فلماذا لا تقدم على إعلان ذلك وتشرح موقفها بنفسها، واذا لم تكن في وارد الاستئذان من جمهورها في أي حال فلماذا تغلّب السرّية اذا كانت تعتبر أنها تقوم بما تمليه مصالحها، لكن هل أن عدم خطوها أي خطوة رسمية بعد يعني أن «الثقة في نتانياهو» لا تزال معدومة وأنها ليست بصدد «تطبيع» مجاني؟ لعل في ترحيب «إعلان نواكشوط» بالمبادرة الفرنسية الداعية إلى عقد مؤتمر دولي للسلام قبل نهاية السنة، ما يشير الى أن نتانياهو تسرّع في اعتبار أن المآزق العربية الراهنة فرصة سانحة لإقناع العرب بأن جرائم «داعش» وايران تمحو جرائم إسرائيل.