لم يفشل الانقلاب في تركيا فقط، بل إن ماحصل يمثل ضربة قاضية لما تبقى من إرث الجمهورية الأولى؛ جمهورية أتاتورك، ومبادئها، وبداية عهد جديد؛ عهد جمهورية أردوغان.
للوهلة الأولى بدا أن تركيا تستعيد سيرتها الحافلة بالانقلابات العسكرية. ولاشك أن الضباط الذين تحركوا للسيطرة على السلطة، كانوا على ثقة بأن النجاح سيكون حليفهم مثلما كان الحال مع أقرانهم من قبل.
العالم كله اعتقد لبعض الوقت أن الانقلاب نجح بالفعل. لكن بعد ساعات قليلة تبدل الموقف؛ فقد تبين أن الجيش منقسم حول الانقلاب، وقوات الأمن والدرك تقف ضد الانقلابيين. الشارع التركي كان تحت تأثر الصدمة، وهو يرى الدبابات تحتل الساحات العامة، وبعد رسالة قصيرة عبر”سكايب” من أردوغان نزل الآلاف إلى الشوارع ضد الانقلاب.
خصوم أردوغان الذي سبق له أن أخرجهم من دائرة السلطة، أمثال الرئيس السابق عبدالله غل، ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أغلو وقفا بقوة ضد الانقلاب، وساندا الشرعية. أحزاب المعارضة التركية التي لا يطيقها أردوغان عارضت الانقلاب.
بالنتيجة وجد الانقلابيون أنفسهم معزولين في الشارع والنخبة السياسية، ولايحظون بالدعم الكامل من قبل الجيش، فلم يكن أمامهم من خيار سوى الاستسلام.
فشل الانقلاب سيمهد الطريق أمام أردوغان وحزبه لتحقيق مالم يكن في الحسبان. حملة تطهير الجيش بدأت منذ اللحظة التي فشل فيها الانقلاب. المحسوبون على جماعة فتح الله غولن، وكل من يعارض توجهات الحزب الحاكم في الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية والحكومية سيتم سحقهم، تحت عنوان تصفية الانقلابيين.
المعارضة ستنظر إلى أردوغان كقائد لايمكن التغلب عليه، وسيمنحه ذلك الفرصة لتمرير كل مايريد من تعديلات دستورية تكرس النظام الرئاسي.
محاولة الانقلاب الفاشلة أعطت الحزب الحاكم تفويضا مطلقا لحكم البلاد، بأقل مستوى من المعارضة. وهى بمثابة درس أبدي للجيش ينهي أحلامه مستقبلا بالسلطة والتحكم بمسار البلاد،
لكن ماحدث في تركيا بالأمس يرسم علامة سؤال كبيرة حول قدرة الديمقراطية على الاستقرار كنهج حكم في بلدان المنطقة. لقد مضى على آخر محاولة انقلاب في تركيا نحو 35 عاما، واعتقد كثيرون بأن التجربة الديمقراطية التركية قطعت شوطا لايمكن الرجوع عنه، إلا أن ماحدث أخيرا، يظهر بأن جذور الدكتاتورية راسخة بقوة في أعماق المجتمعات، ويمكن أن تبرز في أي وقت، مهما بلغت مؤسسات الديمقراطية رسوخا وقوة.
ربما يكون المسار المتأرجح لتجربة حزب التنمية والعدالة في الحكم، ونزعة التسلط عند أردوغان، والصراع مع حليفه الوثيق فتح الله غولن، مثّلت كلها عوامل تحفيز أنعشت ذاكرة الانقلابات عند العسكريين، يضاف إليها سياسات تركيا الإقليمية التي انتهجت خطا توافقيا في البداية وانتهت إلى قطيعة مع معظم القوى المؤثرة، وضعت تركيا في مواجهة مركّبة ومعقدة، مع الأكراد والتنظيمات الإرهابية، ومعركة داخلية مع جماعة غولن في نفس الوقت.
فشل الانقلاب في تركيا، لكن الليلة العاصفة التي شهدتها سيكون لها تداعيات كبيرة على البلاد، وعلى دور تركيا في المنطقة.
لم يكن أحد في تركيا ليجرؤ على رفع اصبعه في وجه أردوغان، بالأمس رفعوا السلاح في وجهه، وعاش لساعات معزولا إلا من هاتف خلوي. الآن يعود أردوغان بعد أن كان على الحافة، فكيف يكون رد فعله؟!