كان من المقدر لحكاية “السلطان يعقوب” أن تذهب أدراج النسيان، وتظل غافية في ذاكرة عدد قليل من الشهود الباقين على قيد الحياة؛ فقد بقيت يتيمة الأبوين، ولم تدون في سجل تاريخي مدقق حسب الأصول، لاسيما أنها جرت قبل 34 عاماً؛ إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وأعقبتها وقائع أكبر أدت إلى إخراج هذه الصفحة من التداول، ككل صفحات تلك الحرب التي دامت 88 يوماً، وانتهت بتفرّق شمل المقاومين.
يمكن إيجاز سردية تلك الحكاية، بأن القوات الغازية اندفعت في اليوم السادس من اجتياح لبنان، من الجنوب شمالاً لقطع طريق دمشق-بيروت، وأن كتيبة دبابات إسرائيلية وقعت في كمين محكم بمنطقة جبلية تعرف باسم “السلطان يعقوب”، حيث قُتل وأسر عشرون جندياً إسرائيلياً، فانسحبت القوة الغازية تاركةً وراءها ثلاث دبابات، كانت واحدة منها على الأقل صالحة للاستخدام.
لم يجر حينها ذلك التنافس المعهود على أبوّة العملية الباعثة على الفخار، خصوصاً أن بعض أبطال تلك المعركة غادروا لبنان على ظهور البواخر إلى ديار شتات جديد، فيما البعض الآخر توارى عن الأنظار. بعد ذلك، تمكن الأسد الأب وآية الله الخميني من تعزيز تحالفهما الهجين غداة نشوب الحرب العراقية-الإيرانية، فتبددت المقاومة الوطنية اللبنانية، وبسط حزب الله يده على الجنوب أولاً، وتالياً على لبنان.
مع تواري أبطال تلك المعركة عن الأنظار، كان من الطبيعي أن تذهب غنيمة “السلطان يعقوب” إلى الجهة الوحيدة الباقية على مسرح الأحداث. وكان حسناً أن توضع لاحقاً في المتحف الحربي في دمشق، غير أن قلة من الناس كانت تعلم أن إحدى تلك الدبابات ذهبت كهدية إلى المتحف الحربي في موسكو، اعترافاً بجميل الاتحاد السوفييتي الذي كان قائماً في حينه، وهو أمر طيب على أي حال.
قبل نحو أسبوع، حدث ما لم يدر في خلد إنسان؛ حين صعد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وسط فريق من المصورين، ظهر تلك الدبابة الهدية، وهو يوزع ابتسامات طافحات بحس الانتصار، معلناً أن الهدية ذات الدلالات الرمزية سوف تعود إلى مالكها بعد طول غياب، وأن ذوي الجنود الذين قتلوا في “السلطان يعقوب” سيصبح لهم بيت عزاء معنوي يزورونه في مقبل الأيام.
ومع أن صمتاً مشوباً بالحرج ران على قلوب المتحدثين -وما أكثرهم- في دمشق وبيروت وطهران، وعقد ألسنتهم تماماً، وهم يتابعون المشهد المنقول من موسكو على البث المباشر، فإن ذلك لا ينفي بالضرورة الموضوعية فرضية شعور هؤلاء بالحيرة والحس بالمهانة، إزاء مغزى تصرف الرئيس الروسي، الذي بات صاحب اليد العليا في سورية، الأمر الذي أملى عليهم غض البصر، وهضم الموقف على كره، لمواصلة الحداء عن “المؤامرة الكونية”.
وفيما تسبب تصرف القيصر الروسي، الذي وهب ما يملك لمن لا يستحق، بجرح سطحي في كبرياء محور الممانعة، أثار بالمقابل لواعج كثيرة لدى أصحاب تلك الغنيمة الحقيقيين، الذين التزموا الصمت طوال العقود الماضية إزاء ادعاء النظام السوري بطولة تلك المعركة، التي سطرها مقاومون فلسطينيون ولبنانيون، كان لا يضيرهم، أساساً، نقل تلك الدبابات إلى دمشق، وإلى
رفاق السلاح وشركاء المعركة الأشمل.
في واقع الأمر، لم يربح الجيش السوري معركة “السلطان يعقوب” أو غيرها في تلك الحرب؛ حيث لحقت به خسائر فادحة، شملت أكثر من 90 طائرة مقاتلة في يوم واحد، إلى جانب تدمير قواعد الصواريخ ومرابض المدفعية والمضادات الأرضية. وفي مشهد يكسر القلب، امتلأ الطريق الدولي من ظهر البيدر إلى صوفر وبحمدون، بأرتال الدبابات المحترقة، وانقطع طريق الإمدادات عن الوحدات المحاصرة في بيروت، بما في ذلك الإمدادات الغذائية، حيث قامت المقاومة الفلسطينية بالواجب من دون تمنن.
على أن أكثر من شعر بفداحة تلك الحرب، وأذهله هذا الحطام الهائل، كانت القيادة السوفييتية، التي شاهدت سلاحها يهان بطريقة مذلة لا تليق بدولة عظمى، مما أثار سخط العسكرية الروسية، وحملها على عدم إمداد جيش الأسد بالسلاح مرة أخرى، لاسيما بالطائرات الحربية. وهكذا، عندما تصمت دمشق كل هذا الصمت عن إهداء هدية لا تهدى أصلاً، فإن من حق أصحاب الغنيمة، مقاومين فلسطينيين ولبنانيين، أن يعاقروا كؤوس الأسى حتى الثمالة.