أخيراً حصلت “الغد” على وثيقة خطة “مكافحة التطرف”، التي بقيت “سريّة” منذ إعدادها قبل أشهر، وحتى صدر تقرير وزارة الخارجية الأميركية (شكراً للعمّ سام!)، الذي ينتقد غياب الأدوات والمسارات في تطبيق هذه الخطة.
الشكر للحكومة الحالية التي أفرجت عن الوثيقة، لكنّ من أعدّها واعتبرها سرّاً خطيراً هي الحكومة السابقة. وكنت أحاول وأنا أتصفّح بنودها أمس، فهم السبب الذي دفع إلى إخفائها، من دون أن أصل إلى جواب. وأحسب أنّ كثيرين منّا كانوا يتوقعون محتوياتها، قبل أن يقرأوها، لأنّنا نعرف تماماً كيف تفكّر “العقلية الرسمية” في موضوع التطرف والإرهاب.
مع ذلك، لا أريد أن أقلّل من جهود من أعدّوا الوثيقة، من مسؤولين وموظّفين؛ ولا أن أستخفّ ببعض النقاط المهمة فيها، والتي تساعد فعلاً في رصد وضبط بعض اتجاهات التطرف في المساجد والخطاب الديني والتمويل ومناهج التعليم.
لكن مشكلة هذه الخطّة، وما تستبطنه من إدراك رسمي مشوّه وسطحي لآفتي التطرف والإرهاب، تكمن في التعامل مع التطرّف بوصفه “مدخلات” وليس “مخرجات”؛ أو كأنّه حالة فكرية محضة، جاءت فقط عبر المساجد والمنابر ومناهج التعليم وتمويل الجمعيات الخيرية، أو أنّه حالة أمنية يجب ضبطها ومنع انتشارها.
تلك هي بعض أسباب التطرف ومداخله، لكنها ليست معزولة عن الشروط المجتمعية والسياسية والاقتصادية والنفسية. فالفكر -في نهاية اليوم- هو ابن الواقع القائم، وإذا لم نفكّر في الظروف الواقعية التي تدفع بالشباب إلى هذا المسار، فإننا سنبقى ندور في الحلقة المفرغة نفسها.
لا يمكن عزل التطرف عن عدم وجود مساحات واسعة لدى الشباب لملء الفراغ بما هو مفيد، وتنمية هواياتهم ومواهبهم في الاتجاه الصحيح، واكتشاف ذواتهم وتطوير هويّاتهم في الخط الإيجابي لا السلبي؛ في الجامعات والمدارس والمجتمع. وهذا ليس شرطاً أن يكون أمراً دينياً محضاً، بل هو في مختلف المجالات.
برأيي أنّ إحدى أهم مؤسسات مكافحة التطرف في البلاد اليوم هي نادي الإبداع في الكرك، الذي يديره المهندس حسام الطراونة، بما يكفل تنمية مواهب الشباب العلمية والموسيقية والفنية والإبداعية. وهي فكرة من الضروري أن يتم تعميمها ونشرها بين المحافظات، بإشراف الطراونة نفسه. وكذلك الحال مؤسسة رواد التنمية التي يشرف على دعمها فادي غندور، وتديرها سمر دودين. أو المبادرات المجتمعية التي بدأت تنتشر اليوم، مثل أندية الكتاب، أو الأندية الرياضية التي توجّه طاقات الشباب نحو الرياضة وتنمّي مواهبهم الرياضية.
في السابق، كانت المدارس تقوم بأدوار مهمة في هذا المجال؛ عبر الأنشطة اللامنهجية، مثل المسرح والموسيقى والبطولات الرياضية، وساعات المكتبة. وهي أنشطة تكاد تكون اختفت!
ليست القضية في مراجعة الكتب ومراقبة كلمة هنا أو هناك، مع أنّ هذا جيد ومطلوب؛ وإنما في إحداث نقلة نوعية في المناهج ذاتها، وفتح الباب أمام البحث العلمي والنشاط العقلي النقدي، وإعطاء الأنشطة اللامنهجية نسبة من التقييم المدرسي لا تقل عن الكتب المدرسية نفسها.
مناعة الشباب والمجتمع إزاء التطرف لا تكمن في تعزيز “أسوار الرقابات”، وتعويم مفهوم التطرف، لتستغله الحكومات فتسجن كل من ينتقد السياسات الرسمية بذريعة التطرف والتحريض على الإرهاب، بل على النقيض من ذلك؛ هي بفتح الباب واسعاً أمام الحريات العامة وحق التعبير، وترك الشباب يعبّرون سلمياً عن أفكارهم ومواقفهم، ليقارع الفكر بالفكر، وتخوض الكلمة المستنيرة معركتها مع الكلمة المتشددة، ويشهد المجتمع سجالاً بين الأصوات العقلانية المستنيرة والأصوات المتشددة والمتطرفة.
المجتمع القوي هو المنفتح الديمقراطي الحرّ، وليس المرعوب الذي يحيط نفسه بالأسوار خوفاً من خطر خارجي، ليكتشف أنّ المشكلة في أحضانه!