يواجه العالم، ونحن جزء منه بالطبع، تحولا مربكا ومعقدا في الإرهاب وتنظيمه ودافعه؛ ومن ثم فهمه ومواجهته. وفي عملية الاعتداء على مكتب مخابرات البقعة، كما في عملية الموقر، وعمليات أخرى كثيرة في أنحاء العالم، بدت عمليات الإرهاب غير مرتبطة على نحو مباشر بجماعات إرهابية مصنفة ومعروفة، ولكنه ينتمي إلى نوع مختلف من العمليات، أو جيل جديد منها مرتبط بأفراد أو مجموعات صغيرة محدودة وغير معروفة من قبل، بحيث يمكن وصفها بأنها “جرائم متوقعة ومنفذون غير متوقعين”.
وفي هذا الانتقال السريع للصراع والإرهاب من الدول إلى الجماعات إلى الأفراد، يمكن تقدير حجم ومستوى الارتباك والحيرة في مواجهة العنف والتطرف. الجيوش والأجهزة والمؤسسات الأمنية خضعت لإعادة صياغة وتنظيم لمواجهة عدو جديد ومختلف عما درجت عليه الحروب والصراعات؛ مواجهة جماعات مختلفة في أسلوبها واستراتيجياتها عن الدول. وما كادت الدول تقر بأن الجماعات مختلفة عنها، ولم تعد تربط بين العنف والدول أو تتهم الجماعات بالعمالة لدولة ما، حتى وجدت نفسها في مواجهة نوع جديد من العنف الشبحي! الصراع مع مجاهيل وإرهابيين غير مرئيين.
قيل تعليقاً على أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 إن “القاعدة” لو كانت مرتبطة بدولة معادية للولايات المتحدة، فإنها لن تقدم على هكذا عملية؛ إذ لم تنفذ الجماعات المرتبطة بالاتحاد السوفيتي في أيام الحرب الباردة مثل هذه العمليات، رغم أن فرصتها في ذلك كانت أقوى من “القاعدة”؛ فقد كانت تملك التدريب والإمداد والقدرة، لكن مصالح الدول، حتى في حالة العداء، تجعل للصراع قواعد وحدوداً لا تسمح بما يمكن أن تفعله جماعة معزولة ليس لديها ما تخسره. وقيل أيضاً تعليقاً على عملية همام البلوي الذي فجر نفسه في اجتماع استخباري في خوست في أفغانستان العام 2009، إنه كان مغامراً فردياً ولم يكن ينتمي إلى حركة طالبان، ولو كان منتمياً بالفعل إلى “طالبان”، لاختارت أن يبقى مزروعاً لصالحها في الأجهزة الاستخبارية، ولكنه عمل بمفرده وبدافع ذاتي، وتصرف بدافع الانتقام الفردي وليس في سياق الصراع بين “طالبان” والولايات المتحدة.
درجت العادة في التعامل مع هذا النوع من الجرائم، على ردّه إلى الجماعات الإرهابية المعروفة، والبحث عن أدلة ومعلومات لإثبات ذلك، أو التقليل من شأنها بالقول إنها عمليات فردية معزولة. ولكنه ليس أمراً يدعو إلى الاطمئنان أن تكون تلك الجرائم فردية، أو أن لا تنتمي إلى مخططات إرهابية منظمة.
والحال أنها جرائم مستمدة من الكراهية والتطرف الفردي، وينفذها أصحابها مدفوعين بمخزون الكراهية المتراكم، وبما تمدهم به شبكات الإنترنت والتواصل من معلومات وخبرات. وهي تظل جرائم، لا يغير من كونها جرائم ألا تكون نفذتها أو خططت لها دول أو جماعات وتنظيمات مسلحة، لأننا في جميع الأحوال أمام فقدان حياة أناس أبرياء، وأزمة عميقة في الثقافة والعلاقات والتخطيط، وفي الحياة وتنظيم وإدارة الموارد والخدمات والأولويات.
ليس المطلوب بالطبع إلغاء التفاسير السائدة، ولكننا بحاجة إلى اختيار إضافي يفتش عن الأزمة الاجتماعية والثقافية العميقة التي تدفع إلى العنف بكل أشكاله، وإدراج جرائم التطرف السياسي -لأغراض الدراسة على الأقل- ضمن الأمراض والعيوب والمشكلات والأزمات الاجتماعية والمجتمعية.
وكما امتدت الظاهرة الإرهابية من الدول إلى الجماعات إلى الأفراد، فإن مجالات دراستها امتدت من الدين إلى السياسة إلى الاجتماع، ويصعد اليوم في فهم الإرهاب طب الأعصاب وعلم النفس والبيولوجيا.