سيبدو بالنسبة إلى البعض أن هذا السؤال خارج السياق، ويتصادم رأساً مع منطق الإسلام وتاريخه. وهذا موقف طبيعي لا بد من تفهمه، لما له من مبررات، نظراً إلى السائد في الثقافة العربية عن الموضوع لقرون متصلة. لكن السائد لا يعني دائماً أنه الحقيقة النهائية. الأرجح أنه ساد لأن الشروط والمعطيات في زمن وظروف معينة وفرت له إمكان السيادة، وعندما تتغير الشروط والمعطيات تتغير بالتبعية زاوية النظر إلى الواقع، ومن ثم إلى الموضوع. من هذه الزاوية تحديداً، أتمنى أن يكتسب السؤال، في نهاية المقالة على الأقل، شيئاً من المعقولية ومشروعية التداول حوله.
لماذا السؤال الآن؟ وفي ظروف إقليمية مضطربة جداً تشهد هجمة طائفية بشعة تقودها إيران بوعي وتعمد لا تخطئهما عين؟ هذا صحيح تماماً، حيث بات من المسلَّم به أن مشروع إيران في المنطقة هو مشروع طائفي ضد السنة العرب تحديداً، كما هو واضح في العراق وسورية ولبنان. وهو مشروع طائفي في منطلقه وآلياته وأهدافه. منطلقه دستور يرسم الطبيعة الدينية للدولة الإيرانية التي أقامها رجال الدين الشيعة على أنقاض ثورة 1979. المادة الـ12 من هذا الدستور، على سبيل المثال فقط، تنص على أن «الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثني (كذا) عشري. وهذه المادة غير قابلة للتغيير إلى الأبد…». ولأن هذه المادة غير قابلة للتغيير لم تطاولها التغييرات التي حصلت للدستور. وقبل ذلك، تنص ديباجة الدستور على أن رسالته «هي أن يحول كل الخلفيات العقائدية للثورة إلى واقع خارجي…»، وبالتالي «فإن الدستور يوفر أرضية (منطلق) ديمومة هذه الثورة في داخل الوطن وخارجه…» (للاستزادة راجع المواد المتبقية، خصوصاً المادتين 72 و115). تنبغي ملاحظة أن كلمة «الثورة» في الدستور الإيراني مضلِّلة، لأنها تعني أولاً انتصار المذهب الشيعي في الداخل، وثانياً مد آثار هذا الانتصار إلى الخارج. ومن هنا التبس الأمر على كثيرين، ظناً منهم أن إيران تصدِّر الثورة، في حين أنها لا تصدِّر إلا المذهبية والميليشيات المذهبية، وهذه بحكم التعريف ليست ثورة، بل نقيضها تماماً.
أما الآلية، فهي نشر الميليشيات الشيعية العربية (لاحظ أن إيران لا تسمح بوجود ميليشيات على أراضيها) في الدول العربية التي تسمح ظروفها بذلك. ثم محاولة نشر التشيع في المنطقة. والهدف من كل ذلك تحريك الصدام الطائفي في الدول العربية، وتقديم إيران نفسها بأنها دولة الشيعة في المنطقة. أمام هذا الواقع يبرز سؤال: كيف تنبغي مواجهة هذه الهجمة الطائفية؟ بطائفية مقابلة؟ إذا فعلنا ذلك تكون استجابتنا للهدف الإيراني بالانجرار إلى لعبة طائفية قذرة. النظام الإيراني يعرِّف نفسه كما رأينا بأنه طائفي. وهذه لعبته. أم أن المطلوب مواجهة هذه الهجمة المتوحشة بما تقتضيه بحكم المنطق والمصلحة معاً، أي مواجهتها بما ينقضها وينسفها من أساسها أيديولوجياً وسياسياً وأخلاقياً؟
هناك مناسبة أخرى للسؤال، وهي التصور السائد بأن العلمانية منتَج ثقافي سياسي خاص بالغرب ثقافة وتاريخاً وقيماً. وبالتالي لا يجوز نقله إلى مجال ثقافي آخر، مثل المجال العربي الإسلامي، لا ينتمي إليه ولا يمثل بيئة مواتية له. يقول سفر الحوالي في كتابه «العلمانية… نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة» إن التصور الإسلامي أساساً «يرفض فكرة وجود أشخاص أو مجالات دنيوية لا علاقة لها بالدين، أو دينية لا علاقة لها بالحياة. بل هو يجعل النفس البشرية ومثلها الحياة البشرية وحدة متناسقة يخاطبها على هذا الأساس ويربطها بالله تعالى مباشرة في توحيد خالص مجرد». ومن ثم، فقد خلا الإسلام من «الملابسات التي أدت إلى وجود الطائفة الكهنوتية» في الغرب المسيحي. ولم «يوجد مثل هذه الطائفة في واقع الحياة الإسلامية، كما أنه لم يوجد لها مبرر في العقيدة والتصور». والنتيجة أن «الطغيان الفظيع الذي مارسته الكنيسة وكان أحد أسباب العلمانية، لا وجود له في تاريخ الإسلام». (ص 661- 662). من جانبه يرى محمد عمارة أنه «لا بد من وقفة أمام مضمون هذا المصطلح -العلمانية- كما عرفته أوروبا الكاثوليكية، لنرى هل هناك خيوط تجعل له مكاناً في ظل الإسلام ومجتمعاته؟». ويجيب على هذا السؤال انطلاقاً من تعريف صحيح للعلمانية بأنها تعني الدنيوي مقابل الديني. وعليه «فالدولة العلمانية هي المقابل للدولة الدينية. والمجتمع العلماني هو المقابل للمجتمع المقدس». والإجابة بناء على ذلك، كما يرى عمارة، أن «الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، ولا المجتمع المقدس ولا يعرف رجل الدين، ولا المؤسسات الدينية». والإسلام «ينكر الوساطة بين الإنسان وربه، ويرفض الكهنة والكهنوت»، وبالتالي فهو «لا يحتاج العلمانية ومؤسساتها، لأنه لم يشهد -فكراً على الأقل- تلك الثنائية التي شهدتها أوروبا الكاثوليكية، حيث نشأت العلمانية» (انظر، الدولة الإسلامية… بين العلمانية والسلطة الدينية، ص 169- 170).
كلام عمارة والحوالي لا يختلف في شيء عما هو سائد في الثقافة العربية الإسلامية عن الموضوع. فالعلمانية في هذا السائد كمفهوم وكخيار سياسي تطورٌ خاص أفرزته التجربة التاريخية للغرب، خصوصاً بعد تبني الإمبراطورية الرومانية الدين المسيحي في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي. وهو التبني الذي انتهى بسيطرة مؤسسة الكنيسة على مؤسسة الدولة. وتبين مع الوقت أن هذا التطور كان من أبرز العوامل المسؤولة عما يعرف في التاريخ الأوروبي بعصر الإصلاح Reformation، ثم الثورات الفكرية والسياسية التي انتهت في نهاية المطاف بفصل الدولة كمؤسسة وكفلسفة عن الكنيسة عن طريق آلية العلمانية. هذه النظرة السائدة للموضوع صحيحة، على رغم أنها لا تقدم الصورة الكاملة لما حصل ولما انتهى إليه. ومن ثم، فإن إشكالية هذه النظرة لا تكمن في هذا الجانب، وإنما في الاستنتاج الذي تخرج به من مسار التاريخ الأوروبي بالمقارنة مع التاريخ الإسلامي.
هذا يعيدني إلى مقالة الأسبوع الماضي، والدلالة الثالثة لانقلاب النهضة. واستطراداً مع ذلك أعود للاستشهاد بما قاله راشد الغنوشي عن العلمانية، وما يتضمنه من اتفاق واختلاف في الوقت ذاته مع ما هو سائد. يقول: «العلمانية، بفتح العين، هي الاهتمام بشؤون الدنيا. (و) في الإسلام ليس هناك تمييز دقيق بين ما هو ديني وما هو دنيوي، أو فصل كامل (بينهما). ولكن نستطيع أن نقول بأن العلمانية في الغرب ليست أيديولوجيا إلحادية كما يظن البعض… العلمانية هي تسويات، فصل وظائف. فصل الوظيفة الدينية عن الوظيفة السياسية. ولا يعني ذلك أن الدولة ستكون حرباً على الدين. وإنما الدولة تحمي كل الديانات، وتقف على نحو ما فيه قدر كبير من الحياد إزاء الديانات» («الحياة»، الأحد 22 مايو، 2016). يتفق الغنوشي في هذا القول كما يبدو مع الحوالي وعمارة وغيرهما كثير، بأن الإسلام لا يميز بشكل دقيق بين ما هو ديني وما هو دنيوي. لكن مؤدى كلامه أن هذا لا يعني بالضرورة تحريم العلمانية، لأنها لا تعني كما ظهرت وطبقت في الغرب أنها أيديولوجيا إلحادية. هي آلية تسويات، وفصل بين الوظائف الدينية والسياسية، لا أكثر ولا أقل. كلام الغنوشي أكثر انفتاحاً، وأكثر دقة وموضوعية في وصف طبيعة العلمانية ووظيفتها. لكن يبدو أنه لا يختلف عن غيره في أن هذه العلمانية في أصلها وفصلها هي خصوصية تاريخية غربية تمكن الاستفادة منها إسلامياً في هذه المرحلة. هل هذا صحيح تاريخياً؟ لا شك في أن اسم العلمانية كمصطلح هو نحت غربي، وأن العلمانية باتخاذها معادلة دستورية سياسية معينة بين الدولة والمجتمع في الغرب إنما جاءت نتيجة للتجربة التاريخية للغرب. لكن ماذا عن فكرة الفصل والتمييز بين الديني والاجتماعي والسياسي؟ أليست هذه سيرورة تاريخية عرفتها كل المجتمعات الإنسانية، وليس فقط المجتمعات الغربية؟ صحيح أن الكهنوت اتخذ شكلاً مؤسساتياً في الكنيسة الغربية، لكن ألا يمكن القول إن هناك كهنوتاً إسلامياً وإن لم يتخذ شكلاً مؤسساتياً مماثلاً؟ أليس غياب الشكل المؤسساتي هذا هو ما سهل للدولة كمؤسسة في التاريخ الإسلامي السيطرة على الدين (غير الممأسس)، على عكس ما حصل في الغرب عندما تمكنت مؤسسة الكنيسة من إخضاع مؤسسة الدولة لسيطرتها؟ هذا يشير إلى أننا أمام سرديتين تاريخيتين لإشكالية واحدة. لا يعني اختلاف المآل الذي انتهت إليه إحدى السرديتين غياب إشكالية علاقة الدولة بالمجتمع عن السردية الأخرى. وإذا صح هذا فمعناه أن الفصل بين الديني والسياسي والاجتماعي ليس خاصاً بالحضارة الغربية، بل هو ظاهرة عرفها كل المجتمعات. هل يمكن القول في هذه الحال إن للعلمانية -كفكرة- جذراً إسلامياً وهندياً وصينياً… إلخ؟ مرة أخرى يواجهنا سؤال يتطلب حديثاً آخر.