على مدى السنوات الطويلة الماضية، تخلّقت في الأذهان العامة صورة انطباعية مبهمة حول جماعة الإخوان المسلمين في مصر، كان مبناها أقرب إلى الأساطير منه إلى فحوى الحقائق، والتي ما كان للرأي العام تبيان ماهيتها إلا بعد أن وصلت هذه الجماعة إلى سدة الحكم، وتم اختبارها على أرض الواقع.أولى هذه الأساطير أن جماعة الإخوان المسلمين حركة براغماتية تتقن فن الممكن، أو ما تسميه “فقه الضرورة”، وتعرف رغم طابعها العقائدي، لزوميات التكّيف مع الشروط الموضوعية، وتبرير ذلك بأسانيد تاريخية حفل بها التراث الإسلامي. إلا أن الاستماتة على السلطة والتفرد بها تكفلت بتبديد هذه الخرافة.ثانيتها، أن هذه حركة معتدلة سياسياً، وذات فكر وسطي يناهض التطرف، يجمع ولا يفرق، على قاعدة الشراكة لا المغالبة، والموادعة لا الإكراه؛ فإذا بها تنحو عندما خسرت الحكم إلى استرجاع مخزونها من العنف، وتجمع حولها طيفا واسعا من الإرهابيين الذين بدوا وكأنهم احتياطيا استراتيجيا لها.ثالثتها، أن لديها مشروعاً إسلامياً في الإدارة العامة والاقتصاد والسياسة، شعاره “الإسلام هو الحل”؛ فإذا بها صاحبة مشروع سلطوي محض، أساسه التمكين للجماعة و”أخونة” الدولة، مع ميول استبدادية فجّة، ومساعٍ محمومة إلى إقصاء الشركاء في الثورة، وتكفيرهم إن دعا الأمر.رابعتها، أنها تمثل الاتجاه الأكثر جذرية والأشد صلابة في معاداة إسرائيل على نحو لا يعرف المساومة، وهو ما ثبت عكسه عندما انصاعت لمعاهدات السلام التي سبق أن قالت فيها ما لم يقله مالك في الخمر، والتزمت من ثم بمقتضيات العلاقات الموروثة من عهد مبارك، بل وحسنت من مستوى التعاون الأمني بصورة أدهشت الإسرائيليين أنفسهم.خامستها، أنها حركة تملك رؤية بديلة، ولديها كوادر مؤهلة وخبرات نظرية مؤصّلة، ومهارات في الإدارة الاقتصادية الناجعة. وهو ما تأكد أنه محض ادعاء فارغ، لم ينجم عنه سوى مزيد من الفوضى والفقر والفشل على كل صعيد، ودفع مصر إلى حافة الكارثة.سادستها، أنها تقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية التي سبق أن تم وصفها كمنتوج ثقافي غربي لا يصلح للمجتمعات الإسلامية. غير أنه في الممارسة، اتضح أن هذه “البدعة” تشبه لديها عود الكبريت الذي لا يشتعل إلا مرة واحدة، وأنها لن تكون نزيهة إلا إذا فازت فيها “الجماعة”.سابعتها، أنها قوة سياسية لا تُقهر، بالنظر إلى ما بدت عليه من مظاهر تنظيمية قادرة على الحشد والاستعراض الجماهيري الذي لا غالب له. غير أن هذه الأسطورة سرعان ما تبددت عندما خرج عليها ملايين المصريين، واستعرضت الدولة العميقة قدراتها الهائلة.وأحسب أن هناك عدداً من الأساطير الأخرى، مثل أن جماعة الإخوان المسلمين هي قدر “الربيع العربي” المقدر، ومؤشر بوصلته السياسية؛ وأنها التعبير الأبلغ عن نبض الجماهير في الريف، وأنها جمع من الصالحين الأطهار غير الملوثين بالفساد؛ وغير ذلك مما تكشف عنه واقع الحال البائس خلال عام واحد.كان من الممكن لهذه الأساطير أن تظل رائجة لبعض الوقت، لو لم تقع الواقعة التي لم تخطر على بال أرباب هذه “الجماعة”، ونعني بها خسارة السلطة دفعة واحدة، وما تلا ذلك من انكشافات بالجملة لفيض من الادعاءات والمزاعم المتهافتة، بما في ذلك الادعاء بقبول الآخر، والزعم بأنها قد تطهرت من إرثها وميولها العنيفة.ولعل الخطاب الذي تلاه مرشد الجماعة من أمام “رابعة العدوية”، وما رافقه من ارتداد سريع إلى الإرهاب في سيناء، بالتعاون مع “القاعدة” وشقيقاتها، فضلاً عن معاقرة الوهم بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، تشير جميعها إلى أن كل ما انطبع في الأذهان عن هذه الجماعة في السابق، كان مجرد أساطير زائفة.في المحصلة غير النهائية، لقد خسر إخوان مرسي في سنة واحدة كل ما أعدوا له أنفسهم على مدى ثمانين سنة؛ ليس بفعل المؤامرة الكونية، وإنما بفعل الإخفاق في قراءة الواقع، والتعلق بشرعية صندوق الانتخاب بدون الالتفات إلى شرعية الإنجاز، وهو ما عجل بمثل هذه النهاية المثيرة.
عيسى الشعيبي/إخوان مرسي.. سبع أساطير رائجة
14
المقالة السابقة