بات من المعروف أن التجربة السياسية في تونس منذ 16 كانون الأول (ديسمبر) 2010 تقدم بشكل متواصل نموذجاً مختلفاً للاستجابة والتفاعل مع موجة الربيع العربي التي انطلقت شرارتها الأولى من هذا البلد العربي الصغير. استطاعت تونس حتى الآن أن تسير في طريق انتقالها من حال اجتماعية سياسية إلى أخرى بالحوار، وبأدوات وآليات سياسية، وبمشاركة جميع مكونات مجتمعها السياسي بعيداً من الاستئثار بالعنف والاقتتال والإقصاء. تشكل فيها بعد الثورة نظام سياسي يقوم على التعددية، والتداول السلمي للسلطة، ودستور يؤكد مدنية الدولة، كما يؤكد هويتها العربية، وأن دينها الإسلام. لاحظ المزاوجة هنا بين الهوية الإسلامية للدولة وطبيعتها المدنية، بما يميز الفضاء العام للدولة وانشغالاتها عن الفضاء الخاص للفرد. هذا التحول لم يستقر بعد بشكل نهائي يحتكم إليه الجميع، إلا أن المؤشرات تومئ بأنه في طريقه لأن يصبح كذلك.
يتضح تميز التجربة التونسية بالمقارنة مع تجارب الدول العربية الأخرى التي ضربتها موجة الربيع العربي نفسها، مصر واليمن وسورية وليبيا. في هذه الدول كانت الاستجابة عنيفة، خصوصاً في سورية، حيث يتمسك رئيس النظام بدعم من حليفته إيران وميليشياتها، بالاستئثار بالحكم من منطلق طائفي، وبدفع البلد في سبيل ذلك إلى حرب أهلية تدمر البشر والحجر. تمثل التجربة السورية نموذجاً مثالياً للتوحش وغياب السياسة والحوار والآليات الدستورية في مقابل النموذج التونسي. التجربة المصرية نموذج آخر أقل توحشاً بكثير من النموذج السوري، لكنه لا يقل كثيراً في غياب السياسة عنه وسمة الاستئثار، وإن كان الاستئثار هنا لمؤسسة وليس لشخص الرئيس وطائفته وحلفائه الأجانب كما في سورية.
تفرض المقارنة هنا سؤالاً: لماذا وكيف اختلفت تونس في استجابتها؟ هي التي أطلقت شرارة موجة الربيع العربي. هل لهذا علاقة بنموذجيتها؟ هذا سؤال أتركه الآن لصالح تناول واحد من بين أهم ملامح النموذج التونسي، وهو موقف حركة النهضة وقادتها مما ينبغي أن تكون عليه استجابة النخبة السياسية والثقافية التونسية للثورة التي أرغمت الرئيس على التنحي والهرب.
لماذا حركة النهضة تحديداً؟ لأنها حركة إسلامية محسوبة على الإسلام السياسي، وتنافس على المركز الأول في حجمها وحضورها في الشارع التونسي. موقف الحركة من التغير الفكري والسياسي المنشود لا تقتصر أهميته على الداخل التونسي، بل تتعداه إلى الفضاء العربي قبل غيره. فالمجتمعات العربية مجتمعات إسلامية في هويتها، وستبقى كذلك. ومن ثم فإن التغيير المنشود في هذه المجتمعات لا يمكن أن يتحقق إلا من بوابة إسلامية، إما أن ينطلق التغيير من سلطة إسلامية، أو أن تصادق هذه السلطة على مشروعيته وصلاحيته لمستقبل هذه المجتمعات. ما يميز موقف حركة النهضة هو مبادرة قيادتها بكل جرأة وشجاعة إلى تبني رؤية إسلامية للدين والدولة، والعلاقة بينهما مختلفة، وتتصادم مع الرؤية الموروثة والسائدة لهذه المسألة.
رئيس الحركة، راشد الغنوشي، عبر في مناسبات عدة عن موقف الحركة، قبل وبعد انطلاق ثورات الربيع. وقد وصل إلى ذروة تعبيره في خضم مشاركة الحركة في العملية السياسية التي أعقبت سقوط الرئيس بن علي. في 7 كانون الأول (ديسمبر) 2015 كان له حديث مطول في برنامج «في العمق» على فضائية «الجزيرة». تناول في هذا الحديث مسألتي العلمانية وحرية الدين أو المعتقد. عن العلمانية أقر الغنوشي بأن «العلمانية، بفتح العين، هي الاهتمام بشؤون الدنيا. (و) في الإسلام ليس هناك تمييز دقيق بين ما هو ديني وما هو دنيوي، أو فصل كامل (بينهما). ولكن نستطيع أن نقول بأن العلمانية في الغرب ليست أيديولوجيا إلحادية كما يظن البعض. العلمانية هي تسويات، فصل وظائف. فصل الوظيفة الدينية عن الوظيفة السياسية. ولا يعني ذلك أن الدولة ستكون حرباً على الدين. وإنما الدولة تحمي كل الديانات، وتقف على نحو ما فيه قدر كبير من الحياد إزاء الديانات. نحن نرى أن العلاقة بين الديموقراطية والعلمانية، مثلاً، ليست علاقة ضرورية، كما يروج بعض الناس. فيمكن لك أن تكون علمانياً وإرهابياً أو ديكتاتورياً. ويمكن لك أن تكون علمانياً ديموقراطياً. ويمكن لك أن تكون إسلامياً، أو مسلماً ظالماً، أو إرهابياً أو محارباً. ويمكن لك أن تكون مسلماً ديموقراطياً. إرادة الوصل الضروري والحتمي بين العلمانية، بين الحداثة والديموقراطية هي ربط متعسف. وبالتالي نحن نؤكد باستمرار أن الإسلام والديموقراطية يتواءمان، وأن الديموقراطية هي الممارسة الحديثة للشورى». إلى جانب مجادلته بانسجام الإسلام مع الديموقراطية، يعطي الغنوشي الانطباع بأنه يدرك أن العلمانية ليست أيديولوجيا، ومن ثم لا تعني الإلحاد، بقدر ما أنها آلية سياسة دستورية لتحييد الدولة أيديولوجيا لتمكينها من إدارة شؤون المجتمع بتعدديته بهدف تحقيق المساواة والعدالة وحكم القانون للجميع. (راجع صحيفة الحياة، 24 كانون الثاني / يناير 2016).
في إجابة على سؤال أن الأحزاب الدينية ترى أن من واجبها فرض رؤيتها على المجتمع، قال الغنوشي إن هذا تأويل فاسد للدين، مضيفاً أن «الدين لا يفرض. كل نصوص الدين، تؤكد مبدأ لا إكراه في الدين». مضيفا أن «حرية الدين مؤكدة قطعاً في الإسلام. وليس مهمة الدولة فرض عقيدة ما على الشعب». مهمتها «تقديم الخدمات للناس، وصيانة الأمن».
يشير كلام الغنوشي إلى ضرورة التخلي عن المفهوم السائد للدين وعلاقته بالدولة في الإسلام، باعتباره موروثاً عن عصور إسلامية خلت ولم يعد ملزماً لأنه كان اجتهاداً فقهياً فرضته ظروف ومعطيات تلك العصور. وأنه لا بد من اجتراح مفهوم جديد يستجيب لظروف العصر، ومستمد في الوقت نفسه من القرآن. ينطوي كلامه على أن هذا المفهوم الجديد يستند إلى تمييز الفضاء العام للدولة عن الفضاء الخاص للفرد، وضرورة الفصل بينهما. فالإيمان أو المعتقد الديني وما يفرضه من اعتقادات وعبادات يتعلق حصرياً بضمير الفرد وحقيقة إيمانه، ومن ثم بعلاقة الفرد بربه الذي يملك الاطلاع على ضمير الفرد وعلى حقيقة إيمانه. بناء على ذلك لا يقع المعتقد الديني للفرد ضمن علاقته بالدولة، بل ضمن الفضاء الخاص به. يؤكد ذلك أن المكلف في الإسلام، والذي ستقع عليه مسؤولية الحساب يوم القيامة بناء على هذا التكليف هو الفرد وليس الجماعة أو الدولة. يشير الغنوشي إلى أن التكليف وما سيترتب عليه من حساب يتطلب توافر الحرية من أي إكراه في هذا الموضوع. يقول: «الذي يفتقد حريته، لا حرية له ولا دين له، كالذي لا عقل له لا دين له، فمن فقد حريته فليس مكلفاً بالشرع. وبالتالي لا نرى أن من مهمة الدولة أن تفرض نمطاً من الحياة، تفرض نمطاً معيناً وتتدخل في ملابس الناس، تتدخل في ما يأكلون وما يشربون». ويدعم رأيه هذا بآيات مثل (لا إكراه في الدين) و(ولكم دينكم ولي دين)، و(من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). هناك آيات كثيرة تصب في هذا الاتجاه، لعل من أهمها الآية 99 من سورة يونس (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين). هذه الآيات وغيرها تؤكد حرية المعتقد، وهو تأكيد يصعب أن يخرج عن كونه شرط ضرورة للتكليف تماشياً مع حكمة العدل للخالق. ولا يتفق مع هذه الحكمة أن يكون هناك تكليف يترتب عليه حساب من دون حرية اختيار.
في المقابل هناك الفضاء العام المتعلق بالمعاملات وبالتدافع في الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. هذا الفضاء هو الذي يقع بالضرورة في القلب من علاقة الفرد والمجتمع بالدولة. ويخضع بالتالي للقوانين الصادرة عن البرلمان، السلطة التشريعية لهذه الدولة. ألا يقتضي الإسلام أن تكون الهوية الأيديولوجية (الدينية) لهذه القوانين هوية إسلامية؟ إجابة الغنوشي على ذلك مباشرة وجريئة «إذا كان الشعب الذي يمثله البرلمان مشبعاً بأيديولوجية معينه ستعكسها القوانين». بعبارة أخرى، ستكون هوية قوانين البرلمان تعبيراً عن الأيديولوجيا السائدة بين الشعب. طبعاً بشرط أن يكون انتخاب أعضاء البرلمان ديموقراطياً حراً، ومعبراً بشكل أمين عن حرية اختيار الناس. يضيف إلى ذلك بأن «المشكل في التاريخ الإسلامي هو خلاف للمشكل في التاريخ المسيحي. المسيحيون ثوراتهم كانت من أجل تحرير الدولة من سلطة الدين. نحن اليوم نريد تحرير الدين من سلطة الدولة».
أخيراً وتماشياً مع هذا الطرح قال الغنوشي الخميس الماضي، في حديث لصحيفة «لوموند» الفرنسية، بحسب موقع قنطرة، بأن حركة النهضة ستخرج من الإسلام السياسي لتتحول إلى حزب «سياسي، ديموقراطي ومدني له مرجعية حضارية مُسْلمة وحداثية (…). نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية» مضيفاً: «نريد أن يكون النشاط الديني مستقلاً تماماً عن النشاط السياسي. هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية. وهو جيد أيضاً للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفاً من السياسيين». بهذا تكون الحركة بدأت بنفسها بأن فصلت الديني عن السياسي في دورها ووظيفتها في الدولة التونسية الجديدة. وهذا انقلاب فكري وسياسي كبير من داخل التيار الإسلامي ستكون له آثار وتداعيات كبيرة على التصور الإسلامي لمسألة العلاقة بين الديني والسياسي في هذه المرحلة، خصوصاً في ما يتعلق منها بمعضلة العلمانية وحرية المعتقد. أين من هذا موقف الإخوان المسلمين في مصر، أو الجماعة الأم؟