من مسلّمات السياسة أن لتحقيق السلام شروطاً، منها توازن قوى يقنع أطرافه باستحالة انتصار أيٍّ منها، وبأن من الأفضل لها عقد صفقةٍ تنهي أعمالها القتالية، وتفتح صفحةً جديدةً بينها، تؤسس على حلولٍ وسط، تلبي المشترك بين مطالبها. ومنها استسلام أحد أطراف النزاع، نتيجة تعرّضه لهزائم متتابعة، أو لهزيمةٍ فاصلة، ترغمه على قبول مطالب المنتصر وشروطه. لا تتوفر أيٌّ من الحالتين في الصراع الدائر في سورية وعليها. لذلك، يُرجّح أن لا تعرف بلادنا سلاماً وشيكاً، لا سيما وأن ما يناقش اليوم من مشاريع حلول يتصل بصراعات أطرافٍ داخليةٍ وعربيةٍ وإقليميةٍ تتقاتل بالنيابة عن أميركا وروسيا اللتين يصعب توصلهما إلى تسوياتٍ لخلافاتهما المعقدة عند مستوى الصراع السوري الراهن، غير القابل للحسم من أحد أطرافه، ومستوى علاقات القوى الروسية/ الأميركية غير المتوازنة في المنطقة وخارجها. في الوقت نفسه، يستحيل أن تنزل إحداهما هزائم متتالية أو هزيمة فاصلة بالأخرى، في منطقةٍ تلتقي عندها قارات ثلاث، تحتوي على ثرواتٍ نفطية ومعدنية وزراعية هائلة، ومواقع استراتيجية فريدة، وموارد واحتياطيات مالية لا مثيل لها، ترشّحها التطورات لتفاعلاتٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ تحولية، وصراعاتٍ دينيةٍ ومذهبية حاسمة، وخياراتٍ وطنيةٍ وقوميةٍ متضاربة، بينما تسوسها نظم متهالكة، ترفض أغلبية شعوبها طرائقها في الحكم.
قبل توصل الدولتين إلى حلٍّ لمشكلاتهما، لن تعرف سورية السلام، سواء عبر حلٍّ سياسي تريده المعارضة أم حل عسكري يريده النظام، بما أن الصراع فيها لم يعد يتعيّن بالتناقض بين الشعب والأسدية، بل صار أكثر فأكثر صراعاً أميركياً/ روسياً، يتخطى ساحته السورية إلى مطارح ومشكلات دولية استراتيجية، ليست مشكلات سورية غير فرع صغير منها، سيتوقف بلوغه على ما يتم خارجها من تفاهماتٍ على مصالح وخلافاتٍ، يجعل استمرار سورية ساحة تصفية حساباتٍ ومعارك لا علاقة لها بها، وموضوع حلٍّ سيكون فرعاً من حلول مشكلاتهما المستعصية، لا يحتل اليوم أولوية في خططهما، على الرغم من مباحثات جنيف وغيرها.
ما معنى انفراد روسيا وأميركا بشكل الحل وقرار التفاوض، وتقييد دور أوروبا والمتصارعين الإقليميين، وحرص أميركا على رفض أية تسويةٍ لمشكلات روسيا ولمشكلاتها مع روسيا؟ ولماذا لا يعتبر أيٌّ منهما الحل السوري موضوعاً مستقلاً عن خلافاتهما، ويجب أن يحل بعيداً عنها، وعما يطالب به كل منهما، وهو معلوم بالنسبة إلى روسيا، وغامض بالنسبة إلى أميركا التي تمارس سياساتٍ، هدفها، في المدى المتوسط، إقامة تنسيق استراتيجي إسرائيلي/ إيراني بإشرافها، تنضبط به سيطرتها على العرب إلى أمدٍ طويل، ويضع مصيرهم في يدها قوةً تدير، منذ خمسة أعوام، أزمة سورية والمنطقة، وتتحكّم بأحداثها، وتدفع بها منذ عام نحو المجهول: بدعم جماعات “البايادا” الإرهابية ومساندتها، وغرسها بقوة متعاظمةٍ ومهدّدة في المجال الداخلي السوري، على الرغم من أن، أو الأصح، لأن مشروعها مفتوح على إعادة إنتاج الدولة السورية في سياقٍ مغاير لنمطها الحالي، وعلى صراعاتٍ إقليميةٍ تمد واشنطن بمزيدٍ من أدوات الضغط على تركيا وإيران، وتعزّز قدرتها على توريط روسيا واستنزافها.
في أوضاعٍ كهذه، هل ينتظرعاقلٌ أن تعتمد الدولتان وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن 2118، لتسوية خلافاتهما؟ وهل بلغنا مرحلةً يبطل فيها الواقع السوري والدولي وثيقة جنيف والقرارات المرتبطة بها، ويجعلها غير قابلة للتطبيق، أم إنه يجمّدها، إلى أن تتفق الدولتان على حلول لمشكلاتهما، علماً أن واشنطن غير راغبة في الحلول، وغير مستعجلة عليها، وأنها تدير علاقاتها مع روسيا بطرقٍ تستنزفها اقتصادياً، وتورّطها عسكرياً، ويمكن أن تدفع بها إلى صراعٍ مع العالمين العربي والإسلامي، يمكن أن ينمي نزعات الإرهاب داخلها، وقدرات الإرهابيين على مواجهتها.
هل أخذنا عجزنا عن إقامة وضع ذاتي، من شأن قيامه أن يحتوي تبعيّتنا للخارج أو يقيّدها، ويمنع سقوطنا في يد المنتفعين بمأساتنا إلى مرحلة ما بعد الثورة و”جنيف” والقرارات الدولية التي تفرّعت عنه؟ في هذه الحالة، هل سننتظر ونحن نقتل إلى أن تسوى خلافات الجبارين، ويأتي دورنا في حل تنتجه تفاهماتهما؟ ألا يجب أن نخشى تسوية أمورهما، من دون إعطائنا شيئاً مما نريده؟
هذه أسئلةٌ يجب طرحها وبلورة إجابات واقعية وعملية دقيقة عليها، إنْ كنا مخلصين لشعبنا، وراغبين في إيصاله حقاً إلى حريته.