أسعدني، كما أسعد غيري، فوز صادق خان، المواطن البريطاني المسلم من أصل باكستاني، في الانتخابات البلدية البريطانية الأخيرة، وتنصيبه رسمياً عمدة لواحدة من أكبر وأهم العواصم الأوروبية، ورأيت في هذا الحدث دليل حيوية ونضج لمجتمعات تؤمن بقيم التعددية والمساواة وعدم التمييز وتحترم الكفاءة والموهبة. لكنني شعرت بالأسف والحزن في الوقت نفسه حين قرأت بعض ما خطَّه كتاب عرب ومسلمون تعليقاً على هذا الحدث، ورأيت فيه دليلاً على ما تعاني منه مجتمعاتنا من أفكار تنزع نحو تمجيد الخصوصية والتطرف ورفض الآخر المختلف. ومن الواضح أن ردود الأفعال المتباينة على هذا الحدث المهم تشير إلى وجود قراءتين له تختلفان إلى حد التناقض الكامل. القراءة الأولى ترى أن أهمية الحدث تكمن في فوز صادق خان في انتخابات على هذه الدرجة من الأهمية على رغم كونه مسلماً من أصول باكستانية، وهي قراءة تفضي إلى نتيجة منطقية مفادها بأن الصانع الحقيقي لهذا الحدث هو مجتمع الناخبين وليس المرشح الفرد. فالمجتمع، وفقاً لهذه القراءة، هو صانع النجاح الحقيقي ليس فقط للمرشح الذي عرف كيف يكتسب المهارات والخبرات التي تمكنه من التواصل مع الآخرين، وإنما أيضاً للناخب الذي عرف كيف يتغلب على نوازع التعصب الديني والعرقي الكامنة في أعماق نفسه وأصبح في وضع يمكنه من الاختيار وفقاً لضوابط وقواعد تُعلي من شأن القيم المجتمعية العليا وتكبح الأهواء الشخصية ونوازع التعصب والانحياز. ولا شك في أن هذه القراءة تعكس فكراً يؤمن بقيم التنوع والتعددية والمساواة ويعتبرها الأسس الصالحة لبناء دول ومجتمعات ونظم ومؤسسات قادرة على الإسهام بفاعلية في بناء الحضارة الإنسانية.
القراءة الثانية، ترى أن أهمية الحدث تكمن في أن الفائز في هذه الانتخابات المهمة مسلم يعتز بإسلامه، وبالتالي يعد انتخابه دليلاً ليس فقط على سمو ما تتحلى به شخصيته من سمات وقيم مستمدة أو مستوحاة من عقيدته الدينية، ولكن أيضاً على حجم التغيرات التي طرأت على بنية المجتمعات الأوروبية نفسها والتي تؤكد، وفقاً لهذه القراءة، وجود عملية تاريخية يتوقع أن تفضي إن آجلاً أو عاجلاً إلى أسلمة المجتمعات الأوروبية.
صديق خان هو ابن أسرة مسلمة سبق لأجداده أن هاجروا من الهند إلى باكستان قبل أن يهاجر والداه من باكستان إلى بريطانيا، في نهاية ستينات القرن الماضي، ويستقرا في إحدى ضواحي لندن الجنوبية الفقيرة. أما والده، الذي توفي عام 2003، فقد عمل بعد استقراره في بريطانيا سائقاً لإحدى باصات النقل العمومي في لندن، واشتغلت أمه بخياطة الملابس، وعاشت الأسرة المكونة من الأب والأم وثمانية أشقاء كان ترتيب صادق الخامس بين سبعة ذكور وبنت واحدة، في منزل بإيجار زهيد توفره السلطات البلدية لمحدودي الدخل. والتحق صادق بإحدى المدارس الحكومية التي توفر تعليماً مجانياً في ضاحية توتينغ، قبل أن يلتحق بالجامعة لدراسة القانون ويتخذ من المحاماة مهنة له. وساعدت أصوله الاجتماعية المتواضعة على تأثره بأفكار حزب العمال المدافعة عن حقوق الفقراء والطبقات الكادحة، فالتحق بالحزب الذي رشحه لخوض انتخابات مجلس العموم عن الدائرة نفسها التي تلقى فيها تعليمه الابتدائي، وفاز بالمقعد في دورتين متتاليتين (2005 و2010), ثم عين وزيراً للدولة لشؤون المجتمعات عام 2007 قبل أن يصبح وزيراً للنقل في آخر حكومة عمالية. ولذا دخل التاريخ السياسي لبريطانيا كأول مسلم وأول آسيوي يحظى بعضوية مجلس الوزراء البريطاني. وها هو صادق خان يصبح اليوم من أهم الشخصيات في عاصمة الدولة التي كانت يوماً ما إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وتسيطر على ما يقرب من نصف سكان العالم، من بينها سكان الهند، بلاد أجداده التي كانت باكستان جزءاً منها.
من المفارقات أن يفوز مسلم فقير من أصول باكستانية في انتخابات يخوضها مرشحون أقوياء وأصحاب نفوذ، ربما كان السير زاك غولدسميث أهمهم. وهو ابن بليونير يهودي شهير، تزوج من فتاة من عائلة روتشيلد الذائعة الصيت والفاحشة الثراء، ومثَّل حزب المحافظين كنائب عن دائرة ريتشموند الراقية في مجلس العموم عقب فوزه في انتخابات 2010، ويعد من أبرز الداعين إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولم يفت هذا المرشح اليهودي بالطبع أن يتهم خان بانتمائه إلى جماعات إسلامية متطرفة، لكن هذه المحاولة البائسة لاستغلال ظاهرة الإسلاموفوبيا لم تنجح. فقد حصل خان، وفقاً للأرقام الرسمية لنتائج الانتخابات، على مليون و310 آلاف و143 صوتاً مقابل 994 ألفاً و614 صوتاً حصل عليها منافسه الأبرز غولدسميث، وبالتالي فاز على أقرب منافسيه بفارق ضخم من الأصوات.
كان لافتاً للنظر أن يبدأ خان كلمته التي ألقاها عقب فوزه بهذا المنصب الرفيع، بالبسملة والصلاة على رسول الله، وأن يتذكر والده المتوفي ويشيد بفضله عليه ويعبر عن أسفه لأن العمر لم يمتد به ليشهد هذه المناسبة. كما لم يفته أن يشير إلى أن انتخابه يعني أن لندن «اختارت الأمل بدلاً من الخوف، والوحدة بدلاً من الانقسام»، وهي كلمات تعكس شخصية واثقة من نفسها، ولا تخجل من أصولها الاجتماعية المتواضعة، وتعتز بدينها وبخصوصية ثقافتها على رغم ما يبدو من مظاهر اندماجها الكامل في مجتمع يسعى جاهداً إلى أن تنتصر فيه قيم التسامح والعدل والمساواة التامة بين المواطنين من دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس أو الطائفة. وفي تقديري أن فوز صادق خان بهذا الفارق الضخم من الأصوات يؤكد أن التيار الغالب في مجتمع العاصمة البريطانية، في اللحظة الراهنة، يؤمن بتلك القيم النبيلة ولم يتأثر كثيراً بعواصف الإسلاموفيا التي تجتاح معظم المجتمعات الغربية. انتخاب صادق خان حدث مهم لا يجوز التقليل من دلالاته، كما لا يجوز التضخيم منها أو المبالغة فيها في الوقت نفسه، ويؤكد وجود نماذج ناجحة لاندماج كامل لجاليات إسلامية متدينة في مجتمعات أوروبية، ويشير في الوقت نفسه إلى أن المجمع الانتخابي في العاصمة البريطانية يعبر في اللحظة الراهنة عن درجة عالية من النضج السياسي، كما يؤكد أن التيار الرئيسي فيه يؤمن إيماناً حقيقياً بالأفكار الليبرالية القائمة على التسامح وقبول الآخر المختلف دينياً وإثنياً… إلخ. غير أن هذه اللحظة ليست بالضرورة قابلة للدوام ولا تعكس اتجاهات المستقبل في أوروبا. فتاريخ أوروبا، والذي نبتت في تربته أفكار وأيديولوجيات نازية عنصرية وفاشية استبدادية وماركسية طبقية، وأفرز زعماء من أمثال هتلر وموسوليني وستالين، وتاريخ الولايات المتحدة، والذي أفرز لنا ظاهرة المكارثية في منتصف القرن الماضي والمحافظين الجدد في بداية القرن الحالي، هو تاريخ مليء بالمفاجآت. وعلى رغم تسليمي بأن المجتمعات الديموقراطية العريقة قطعت شوطاً مهماً في ترسيخ قيم التعددية والديموقراطية والتسامح، إلا أنها ليست محصنة كلياً ضد الأفكار المتطرفة، بدليل تصاعد نفوذ اليمين المتطرف في دول أوروبية عدة كفرنسا وألمانيا وهولندا. لذا سيظل الصراع قائماً بين قيم الليبرالية الحقيقية التي تؤمن فعلاً بالمواطنة وحقوق الإنسان، وبين الأفكار المتطرفة التي ترفض اندماج «الأغيار» وتحقر من شأن المهاجرين، وهو صراع أتوقع أن يستمر فترة طويلة مقبلة. ومع ذلك يظل البون شاسعاً بين ما يجري داخل المجتمعات الراسخة الديموقراطية وما يجري في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
للتعرف على حجم الهوة التي تفصل بين هذين النموذجين من المجتمعات الإنسانية، لنا أن نتخيل مصير صادق خان فيما لو أن والديه قررا الهجرة إلى إحدى الدول العربية بدلاً من بريطانيا. كان من المحتمل جداً في هذه الحالة النجاح في العثور على وظائف تحقق للأسرة استقراراً مادياً، أو ثراءً كبيراً في أحسن الأحوال، وربما ينجح رب الأسرة في تمكين أولاده من الحصول على تعليم جامعي، لكن الأرجح أن الأسرة كانت ستبقى مهمشة اجتماعياً وسياسياً، وغير قادرة على الحصول على جنسية البلد المضيف، وربما تبقى ضمن شريحة «البدون»، أو تضطر في النهاية للعودة إلى وطنها الأصلي.
في مجتمعاتنا مشكلة حقيقية تعوّقها في الوقت الحالي عن التقدم والانطلاق على نحو يمكنها من الإسهام في الحضارة العالمية. قد تستطيع مجتمعاتنا أن تبني مدارس وجامعات ومستشفيات، وأن تشيد موانئ ومطارات، وأن ترصف طرقاً وتقيم الجسور وتحفر الأنفاق، لكنها لن تستطيع أبداً أن تحرر طاقات شعوبها من دون الإيمان بقيم المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان، ومن دون ضمانات لتداول السلطة، بالاحتكام إلى صناديق الانتخابات وليس بركوب الدبابات أو التخلص من المعارضين بالزج بهم في السجون أو بالذبح.