لم يعتد أهل الشرق الأوسط الانشغال بحدث إلا إذا كان عنفياً بامتياز. حرب بين دولتين جارتين. أو حرب أهلية. أو ضربة إرهابية مدوية. أو حرائق متزامنة على غرار ما خلفه إعصار «الربيع العربي». أو يقظة مفاجئة لنزاعات قديمة تلتهم الحاضر وتعيد إلحاقه بالماضي.
وفي الشرق الأوسط يتقدم القلق على كل ما عداه. قلق الخرائط من مخترقيها أو الذين يستعدون للقفز منها. وقلق الجيوش من حروب لا تشبه تلك التي تدربت على خوضها. وقلق الحكومات من الفشل الاقتصادي المتمادي وتقصير الإمكانات عن تلبية الحاجات.
يدفع الشرق الأوسط حالياً أثمان مرحلة انتقالية. لم تعد أميركا مستعدة لدفع دم جنودها وبلايينها لاقتلاع نظام وإحلال آخر. الإدارة الدولية للإقليم غائبة. وروسيا تصطاد في بحيرة الدم السورية. وإيران تواصل اختراق بلدان وتطويق أخرى. لا تستطيع المنطقة العيش إلى ما لا نهاية على وقع التمزقات والانهيارات والاستنزاف. لكن انتظار النظام الإقليمي الجديد قد يكون طويلاً ومدمراً.
في هذا الشرق الأوسط الكئيب والرهيب جاء الحدث هذه المرة من قماشة أخرى. حدث شغل السعوديين وأهل المنطقة معاً. إنه الإعلان عن «رؤية السعودية 2030». للمرة الأولى تتركز أنظار الحكومات والخبراء والمواطنين والمعنيين على حدث مرتبط بالمستقبل لا بالماضي. فالرؤية معركة تقدم وتنمية وتطوير سيؤدي نجاحها إلى تحول حقيقي في أوضاع السعودية ومحيطها.
نجحت الرؤية في إثارة الاهتمام داخلياً وإقليمياً ودولياً. وهي قدمت كمشروع طموح ومدروس وكخيار ضروري لا عودة عنه. وهو ما تبدى من كلام الملك سلمان بن عبد العزيز وشروحات ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وظهر جلياً أن الغرض من الرؤية هو بناء سعودية قوية ومزدهرة ومستقرة تفتح أبواب المستقبل لأبنائها وفرص التعاون لأصدقائها وشركائها.
أكدت أحداث السنوات الأخيرة دور السعودية المحوري في المنطقة على رغم التشابكات والتعقيدات. وهذا الدور بالذات يجعلها مستهدفة من جانب من يخطط لإطاحة التوازنات في الإقليم وإعادة صوغها على قواعد جديدة. وليس سراً أن كل من يحاول إحداث انقلاب كبير في المنطقة يسعى أولاً إلى استبعاد السعودية أو تطويقها واستنزافها.
منذ نحو عقد لازمني أنا الصحافي الجوال شعور غريب. شعور بأنني أنتمي إلى أمة تغرق تحت أثقال كهوفها. وكلما غادرت عاصمة سألت نفسي كيف ستكون بعد عقد من الزمن؟ معدل الفقر ومعدل البطالة ومعدل الجريمة. الإرهاب والفشل وغياب الشفافية وتمزقات الهوية ومدن الصفيح والجيوش الصغيرة الحاقدة.
وكنت أشعر بالإهانة والذل كلما قرأت عن الدول التي حجزت مقاعدها في قطار المستقبل في حين تتعلق دولنا بأذيال القطار المسافر إلى الماضي. وكنت أشعر بالحسد كلما قرأت قصة نجاح سنغافورة. وتايوان. وأندونيسيا. وكوريا الجنوبية. وكيف تمكن التحول الاقتصادي في الصين من إخراج مئات ملايين المواطنين من معتقل الفقر. وحسدت دولاً قليلة الموارد أصلاً على نجاحها في الالتحاق بالثورات التكنولوجية المتلاحقة. حسدتها على جامعات تنجب أبناء طبيعيين لعصرهم في حين نخشى نحن أن يولد الطفل لدينا ملتفاً بحزام ناسف.
لا أريد المبالغة. وأعرف أن لتحول اقتصادي من هذا النوع مصاعبه وأثمانه. وأن إعلان الإجراءات أسهل من تغيير العقليات. وأن معركة بناء مؤسسات عصرية وترسيخ الشفافية لن تكون سهلة. لكن استوقفني هذا الرهان الحقيقي على عنصر الشباب ومخاطبتهم بلغة العقل والأرقام لإقناعهم وإشراكهم ذلك أن النجاح يستلزم تغييراً جدياً في ثقافة أقامت طويلاً وترسخت.
في الشرق الاوسط قاعدة ذهبية قاتلة تقول ان اضرار ابقاء النافذة مغلقة تبقى أقل من ويلات فتحها. أصيبت دول كثيرة في المنطقة بـ»عقدة غورباتشوف». فتح النافذة فدخلت العاصفة. لهذا فضل كثيرون سياسة الجدران المحكمة على سياسة النوافذ والضوء.
إعلان «رؤية السعودية 2030» نقض صريح لسياسة الخوف والجمود والتردد. السعودية القوية هي السعودية المزدهرة. الاقتصاد السليم يضمن بناء سائر عناصر القوة وتطويرها. يضمن النهوض بأعباء الدور السعودي وهو في المنطقة صمام أمان. وحدها التنمية بالمفهوم الشامل تنقذ المواطن والوطن. تحمي المجتمع والخريطة. وتوفر القاعدة الصلبة لدور يجتذب الراغبين في الصعود إلى قطار المستقبل.
تابعت إعلان «رؤية السعودية 2030» من بيروت. من مدينة تنزف آخر ما تبقى من سحرها ومعناها. شممت أيضاً رائحة الدم المتطاير من ركام جوهرة كان اسمها حلب. تابعت أيضاً المهازل «الديموقراطية» في بغداد وتخيلت أبو بكر البغدادي يضحك في كهفه. يا للهول. إنهم يتقاتلون في عربات القطار المسافر إلى الماضي.