مرة أخرى نقع في المطب، فتبدو مؤسساتنا وكأنها جزر معزولة، لاصلة بينها ولا رابط. الجديد في طريق المطبات الطويل، مادار خلال الأيام الماضية من جدل حول “السكن الوظيفي لرؤساء الأركان” في منطقة دابوق غربي العاصمة.
لأكثر من أسبوعين والمواقع الإخبارية والإعلامية تتداول “تسريبات” عن الموضوع، دون أن تتوفر رواية رسمية مكتملة، باستثناء ما نسب لمصادر في وزارة الزراعة. ومع استمرار التسريبات على نحو يضر بسمعة المؤسسة العسكرية التي تحظى، إلى جانب الأجهزة الأمنية بأعلى مقدار من الثقة الشعبية مقارنة مع المؤسسات المدنية في الدولة، صدر توضيح من مديرية الإسكان والأشغال العسكرية التابعة للقيادة العامة للقوات المسلحة، مدعوما بالوثائق التي تؤكد موافقة مجلس الوزراء ووزارة الزراعة على إقامة السكن المذكور مكان سكن آخر آيل للسقوط، دون المس بالثروة الحرجية في المكان.
لايمكن لأي كان أن يطعن بصحة الكتب الرسمية التي أبرزتها مديرية الإسكان العسكرية، لكن المرء يتساءل محتارا مع نفسه؛ إذا كان الأمر على هذا النحو، فما الذي يمنع الجهات الرسمية والمعنية بالملف من الجلوس معا وتسوية الموقف؟ ثم سؤال آخر محير: لماذا صمتت رئاسة الوزراء طوال هذا الوقت، ولم تتصدَ للأصوات المشككة بسلوك قيادة الجيش ونواياها؟
ثمة أزمة مستعصية تخص طريقة إدارتنا لأبسط أزماتنا، تكشف عن ضعف في التنسيق يصل أحيانا حدّ القطيعة بين مؤسسات الدولة وأجهزتها، رغم كل ما نسمع عن اجتماعات ماراثونية تجمع كبار المسؤولين والقادة.
هناك على مايبدو قدر من اللامبالاة تجاه المواضيع المطروحة باهتمام عند الرأي العام، وأحيانا شيء من التصيد من البعض تجاه البعض الآخر. هل تذكرون حادثة “ذهب عجلون” المزعوم؟ سوء الإدارة لتلك الحادثة استنفد من رصيد المؤسسات الكثير، ووضعها في موقف محرج أمام الرأي العام.
لماذا نبدو اليوم وكأننا نكرر نفس الأخطاء دون أن نتعلم الدروس؟ نفهم ونعلم أن عديد قيادات الصفين الأول والثاني في الدولة مشغولون بترتيبات المرحلة القادمة؛ مرحلة مابعد حل “النواب” واستقالة الحكومة هذا الصيف، وصراع الكراسي والمواقع والمناقلات المحتملة، وقد بلغ التوتر مرحلة صار معها من الصعب جمع ثلاثة أو أربعة مسؤولين على طاولة واحدة، دون أن تضمن أن تتعالى أصواتهم وصيحاتهم.
ونفهم ونعلم أن كل مسؤول مشغول بمستقبله الوظيفي وغارق حتى”شوشته” في متوالية لاتنتهي من الحسابات والاحتمالات. لكن ذلك لا يمنع أن يمنحوا ولو القليل من وقتهم “الثمين” لمهامهم وواجباتهم الوظيفية، وعدم ترك الرأي العام نهبا للتسريبات المسيئة لسمعة مؤسسات ومواقع قيادية في الدولة.
أقول وبالتجربة إن اللجوء لوسائل الإعلام لتسوية الخلافات أو ممارسة الضغوط هو أسوأ خيار يمكن التفكير فيه، لأن عواقبه وخيمة على المؤسسات والوزارات والوزراء أيضا. وفي الحادثة التي نحن بصددها أظهرت بعض وسائل الإعلام عمق الأزمة التي تعانيها، وعنوانها افتقار المهنية، واللهاث وراء “السبق” دون تحقق من دقة المعلومات.
الارتجال في إدارة الأزمات، والتعامل مع التحديات وصل مستوى مقلقا؛ هل نعرج على بيان فجر الجمعة أم نتجاوزه؟ لقد كان مثالا على الطريقة ذاتها وعلى الأزمة في قمة تجلياتها.