من اعتاد منا حياة الاستقرار والطمأنينة، يتعجب حين يسمع من ضيوف أشقاء عبارات المديح لنموذج حياتنا هنا في الأردن، وفي العاصمة المكتظة بالزوار من أصحاب الإقامات الدائمة. لكن ما إن نميز الهويات واللهجات حتى يبطل عجبنا؛ فقد غادروا مدنا وعواصم لا يحملون من ذكرياتها سوى أصوات الانفجارات وأزيز الرصاص، وصورا مأساوية لجثث الضحايا في الشوارع.
كيف نجا هذا البلد وسط هذه الفوضى؟ سؤال يتكرر على ألسنة الكثيرين. أما العارفون من الساسة العرب، فيسبقونك إلى الإجابة والشرح المستفيض عن اكتشافهم “المذهل” لمكانة الأردن في المنطقة والعالم، وحكمة قيادته وشعبه التي جنبت البلاد ويلات الدول الشقيقة.
في تحليل “ظاهرة” الأردن مزيج من الإعجاب والحسد؛ ليس عند الضيوف والغرباء فقط، بل من أبناء جلدتنا. أحيانا نسمع من أشخاص كانوا حتى وقت قريب ألد أعداء النظام والدولة، وهم يدلون باعترافات خجولة عن دولة ونظام يستحقان الاحترام، بعد أن كانوا حتى زمن قريب يستكثرون وجودهما ويبشرون بقرب زوالهما؛ كيانا ونظاما.
الأشقاء المفتونون بالأردن اليوم، يغامرون بتحميله مسؤوليات أكبر من طاقته؛ مسؤوليات قد تستنزف رصيده من الاستقرار والأمن، في حال قبل بها.
إن قدرة الأردن على بناء نموذج قابل للتصدير، لكن كخيار يمكن محاكاته عن بعد، من دون تورط منا أو تدخل مباشر.
كان الكثيرون من العرب يعيبون على الأردن تنوعه، بوصفه دليلا على افتقار الهوية والتجانس. لكن أحدا من هؤلاء لم يتنبه إلا متأخرا إلى أن إدارة الأردن لهذا المزيج من المكونات وعلاقاتها مع النظام السياسي هي قصة النجاح التي راكمها على مدار عقود وجنى ثمارها عندما حانت لحظة الاختبار التاريخية لعلاقة الأنظمة بشعوبها. فقد سقطت أنظمة عملاقة أسست علاقاتها مع شعوبها على الاستبداد والإقصاء والسجون.
لسنا نموذجا بمستوى الدول الغربية التي بنت أنظمة ما بعد الثورة البرجوازية في أوروبا. لكننا في منطقتنا كنا الأفضل مقارنة بحكومات أسست شرعيتها على إنكار التنوع، تحت شعارات قومية أو دينية.
ولهذا كانت ثورات “الربيع العربي” بالنسبة للأردن تحديا وليس تهديدا، استجابت له الدولة بدرجات متفاوتة أرضت البعض ولم يكتف بها آخرون. التهديد الحقيقي الذي واجه الأردن وما يزال هو في انحراف تلك الثورات عن طريقها، وتحولها إلى حروب داخلية تفيض خارج الحدود، حاملة معها أكثر أشكال الإرهاب توحشا وهمجية.
هل كان الأردن ليتكلف ما تكلفه ويتحمل ما يتحمله من أخطار وتهديدات، لو أن التغيير في سورية، على سبيل المثال، مضى هادئا وسلميا وتوافقيا؟!
يمضي الأشقاء إقاماتهم وإجازاتهم في عمان بهدوء وسكينة، ويرسلون إليها عوائلهم عندما يشتد الخطب في عواصمهم. هنا يشعرون بالأمان، ولا يخشون من المتفجرات والاغتيالات.
ومع طول الإقامة، صار كثيرون منهم يدركون حدود قدراتنا، وحجم الضغوط التي نواجهها كي نبقى صامدين. الكلفة كبيرة وباهظة؛ اقتصادنا الذي تحاصره الأوجاع يفيد بالحقيقة المرة، مدننا المزدحمة بالأشقاء تعجز عن الوفاء بأصول الضيافة وحتى بمتطلبات أهل الدار.
نعم، النموذج الأردني اجتاز الاختبار بنجاح، لكنه يئن بعد أن أغرقوه بالمديح.