بغض النظر عن درجة الاتفاق أو الاختلاف مع “مبدأ أوباما” في الحكم، والذي عرضه الرئيس الأميركي بإسهاب في مقال طويل جدا في مجلة “الأتلانتيك”، يستند إلى مقابلة مع الكاتب جيفري غولدبيرغ؛ فإن المرء لا يستطيع إلا الوقوف مطولا أمام بعض التطورات المستجدة التي ستؤثر على علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة، حتى بعد انتهاء ولاية أوباما نهاية هذا العام. لقد حكم التاريخ بقسوة على الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن لتدخله العسكري البري في المنطقة عبر حربه على العراق. وها نحن ننتظر حكم التاريخ على أوباما لعدم تدخله العسكري البري في المنطقة.
ردود الفعل على المقابلة؛ سواء من المنطقة أو من أوروبا، جاءت دفاعية إلى حد كبير، خاصة بعد انتقاد أوباما للعديد من دول المنطقة وأوروبا الغربية. لكننا لا يجب أن نغفل، ضمن هذا الخضم من الاتهامات والاتهامات المضادة، عن بعض الحقائق الجديدة التي ظهرت جليا في المقال.
أولا: أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد تتمتع بالأهمية التي كانت تحظى بها في السابق لدى الولايات المتحدة، وذلك لعدة أسباب؛ منها بدء انحسار النفوذ المالي لدول الخليج، وقرب تحقيق الولايات المتحدة للاكتفاء الذاتي النفطي وتسارع صعود مصادر طاقة بديلة، إضافة إلى ضعف الحاكمية الرشيدة وصعود الاتجاهات الراديكالية التي لا تشكل تهديدا مباشرا للولايات المتحدة، ولكنها لا تجلب إلا “وجع الرأس” لها. ويشير أوباما إلى أن الأجدى للولايات المتحدة الاهتمام بالصين، لاسيما أن اقتصادها المتصاعد لديه تأثير مباشر على أميركا، وذلك بدلا من “إضاعة الوقت” في مشاكل لا تنتهي في منطقتنا.
ثانيا: شكت المنطقة في السابق من القبضة الحديدية للرئيس بوش الابن، ومحاولته التدخل في نظم الحكم في المنطقة العربية وفرض “الديمقراطية” بالقوة. ورسالة أوباما الجديدة هي أن الرد على غياب الحاكمية الرشيدة ليس مزيدا من التدخل، بل الانسحاب وترك المنطقة تعالج أمورها بنفسها، بما في ذلك ما قد يترتب من نتائج جراء غياب الديمقراطية وثقافة التعددية، من قبيل تنظيم “داعش” وأشباهه.
ليس المهم أن نتفق أو نختلف مع نهج الرئيس الأميركي، وإنما الانتباه إلى الرسالة الواضحة التي أرسلها من اعتبرته العديد من دول المنطقة حليفها التقليدي سياسيا واقتصاديا: “قلّعوا شوككم بأيديكم”؛ فلا نستطيع أن نبقى معتمدين على “محورية” الدور والبلد والمنطقة.
ويذكرني هذا بالعصور الوسطى في أوروبا، حين اكتشف كوبرنيكوس أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، فنسف الاعتقاد السائد بأن الأرض هي محور الكون، تدور حولها كل الكواكب والنجوم. وأجبر الناس، في النهاية، على نبذ الوهم واتخاذ مواقف أكثر عقلانية، أدت بهم إلى تطوير بلادهم بالمنطق والعلم.. وبالحاكمية الرشيدة.
سوف تمتلئ الصحف انتقادا لمثالية أوباما، أو ضعفه في اتخاذ القرار، أو عدم إدراكه لمبادئ السياسة، أو لانتهازيته، أو غيرها من المبررات التي من شأنها إضعاف حجته التي أوردها في المقال. لكن بعد أن يجف الحبر، ستبقى المشاكل التي أشار إليها قائمة للأسف، فلن يمحوها مجرد انتقاد المقال، ولن تعالجها العصبيات القبلية التي تستحوذ على الكثير منا لدى الرد. وأتمنى أن نوجه جهدنا يوما لمناقشة القضايا المطروحة، بدلا من الاكتفاء بمهاجمة الأشخاص الذين يطرحونها.
لا تعنيني مصداقية الرئيس الأميركي من عدمها، بقدر ما تعنيني ضرورة العمل الداخلي من شعوب المنطقة لتطوير نظم تضمن الحاكمية الرشيدة، وتضمن تعددية الآراء والمذاهب، كما تضمن تعليماً حداثياً ينقلنا من واقع الحال إلى مجتمعات مستقرة ومزدهرة. هذا هو الرد المطلوب؛ أن نمسك قدرنا بأيدينا، ولا ننتظر الرضى أو السخط الآتي من الخارج.