“جورج طرابيشي هو أبي الثقافي الذي لم أتمرد عليه.. والأسوأ أني لم أقابله شخصيا قبل أن يرحل وإن كنت أحلم بذلك.. رحلتي كانت طويلة مع مؤلفاته ومقالاته، حررني خلالها من كثير من أوهامي، وساهم بشكل أساسي في تكوين تفكيري وفتح باب الأمل لي عبر إعادة فهم العالم وغيّر مسار حياتي..”.
هكذا كتب الصديق أمجد الفيوّمي -وهو من الشباب الأردني المثقف، الذي يعشق الكتب والقراءة والثقافة، وأحد أهم الفاعلين في “نادٍ للكتاب” في عمّان- عن وفاة المفكّر السوري المعروف جورج طرابيشي، قبل يومين، عن عمر يناهز 77 عاماً.
قيمة ما كتبه صديقنا العزيز أمجد عن طرابيشي هو أنّه “نموذج” لحجم التأثير الكبير الذي خلقته نخبة من المفكّرين العرب الكبار، خلال العقود الأخيرة، لدى جيل من الشباب، وربما معهم الكبار، من أمثال جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم من مفكّرين رحلوا عن عالمنا في الأعوام الستة الأخيرة.
جورج طرابيشي هو ابن مدينة حلب، في الأصل، وعاش في بيروت، ثم استقر في فرنسا مع الحرب الأهلية اللبنانية، ليتفرّغ هناك للدراسة والبحث والتأليف، مصدرا قرابة مائتي كتاب؛ ما بين ترجمات عديدة في علم النفس والعلوم الأخرى، إلى نقد أدبي مبني على قراءته المعمّقة في علم النفس، وتحديداً فرويد الذي كان طرابيشي من أوّل من ترجم كتبه (مع أنّه يعترف لاحقاً بأنّه ترجم كتبه عن الفرنسية لا الألمانية، وهناك انتقادات وملاحظات عديدة على ترجماته من قبل مثقفين آخرين)، ثم مؤلفاته المتبحّرة في التراث الإسلامي وفي العقل العربي.
لا يمكن ذكر طرابيشي بمعزل عن المفكّر محمد عابد الجابري، والسجال المعرفي-الأبستمولوجي الضخم بين المفكرَين؛ فجزء كبير من إنتاج طرابيشي الفكري جاء نقداً لمشروع الجابري “نقد العقل العربي”، ليكتب طرابيشي كتباً وأجزاءً أخرى في “نقد نقد العقل العربي”، وليقدّم لنا المفكّران الراحلان قراءة معمّقة نقدية عظيمة في التراث العربي والإسلامي، وفي تفكيكه وتحليله، وبيان تأثيره على بنية العقل العربي المعاصر وأزماته، وإخضاعه نفسه -أي العقل- للتحليل والتشريح والنقد، وصولاً إلى محاولة استنطاق الإجابة عن الأسئلة الملحّة بشأن سرّ الهزيمة والتخلف عن ركب الحضارة والمدنية والديمقراطية، وأسباب الضعف وعدم القدرة على التجدّد والتجديد والخروج من النفق الحضاري التاريخي الذي علقت به المجتمعات العربية والمسلمة.
بالضرورة، كلّ من الجابري وطرابيشي شخصيتان جدليتان، لهما أنصار وخصوم. وهناك مفكّرون آخرون اقتحموا هذه النقاشات، ولهم آراؤهم، مثل د. رضوان السيد، المفكر والمؤرخ اللبناني، والدكتور فهمي جدعان الأيقونة الفلسفية والفكرية الأردنية، والدكتور طه عبدالرحمن الفيلسوف المتصوّف المغاربي، والذي هو أيضاً خصص جزءاً كبيراً من إنتاجه المعرفي للرد على محمد عابد الجابري.
قيمة هؤلاء المفكرين والمثقفين أنّهم حرّكوا المياه الراكدة، ونقلوا المناظرة العربية من سياقها الأيديولوجي، في عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، إلى المناخ المعرفي والبحثي والمنهجي، في الثمانينيات وصولاً إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبعضهم ما يزال مستمراً في مشروعه المعرفي والفكري إلى اليوم.
ربما من أجمل ما كتب الطرابيشي -على الرغم من قصره مقارنة بإنتاجه الأدبي- أحد آخر مقالاته بعنوان “6 محطات في حياتي”، عن رحلته الفكرية والروحية والمعرفية، التي تفيد كثيراً في كشف المعاناة النفسية والفكرية لأجيال عربية عديدة بحثت عن هويتها وسط الركام والحطام ودخان المعارك والعواصف السياسية.