يبدو، في هذه اللحظة، قرار الانسحاب الروسي من سورية مفاجئا ومدهشا؛ هل انسحبت روسيا بالفعل؟ هل استعادت الولايات المتحدة زمام المبادرة في سورية والشرق الأوسط؟ هل حصلت المعارضة السورية على صواريخ مضادة للطائرات؛ ما يقلل أهمية الطيران في الصراع؟ هل تُركت سورية من جديد للصراعات الداخلية واللاعبين الإقليميين؟… هل يمضي الشرق الأوسط ليكون منطقة فوضوية هشة غير آمنة؛ أو في صورة كاريكاتورية، منطقة محاطة بالأسلاك الشائكة، يمنع الدخول إليها والخروج منها؟
التفسير الروسي هو أن التدخل العسكري حقق أهدافه، كما أن الانسحاب يساهم في إنجاح مفاوضات جنيف، ونفى أن القرار يعكس خلافا روسياً-سورياً. أما الأميركيون المتفاجئون، كما يبدو، من القرار، فقد نفوا علمهم بالقرار، ونفوا أيضا وجود مؤشرات واقعية على انسحاب روسي. لكن جرت مكالمة هاتفية الاثنين بين باراك أوباما وفلاديمير بوتين، وأكد الرئيسان، كما ذكرت مصادر البيت الأبيض، على ضرورة إنجاح تسوية سياسية للنزاع في سورية. والمعارضة السورية رحبت بالإعلان الروسي عن الانسحاب، واعتبرته ذا تأثير مهم على النظام السياسي في سورية، ويمنح محادثات السلام فرصا للنجاح.
جاء الإعلان عن الانسحاب الروسي متزامنا مع انطلاق الجولة الجديدة من مفاوضات جنيف، وفي ظل الحديث عن فترة حكم انتقالي تمهد لحالة نهائية في سورية، بعدما سادت فكرة أن أطراف الصراع عادت إلى الحرب، وأن روسيا ستحسم الصراع لصالح النظام السوري، وحددت مهلة لذلك بأربعة أشهر، يفترض أنها انتهت بنهاية العام 2015. لكن التدخل العسكري الروسي وإن أفاد النظام السوري في التفوق وحماية مناطقه الأساسية والتقدم باتجاه مناطق جديدة، فإنه لم يضف حقائق ووقائع جديدة وجوهرية إلى خريطة الصراع ونتائجه، ربما أنشأ قدرا من التوازن يجعل أطراف الصراع “لا تموت ولا تحيا”.
وجاء التدخل الروسي في ظل تفاهم أميركي-روسي (ربما)، أو بديلا لانسحاب أميركي من المنطقة، وعزوفا عن التأثير فيها مباشرة، والميل إلى العودة إلى اللاعبين الإقليميين الكبار كما كانت الحال قبل الثورة الإيرانية. وربما نتيجة انسحاب أميركا من المنطقة واتجاهها نحو شرق آسيا الناهض، وربما في سياق خلاف أميركي-أوروبي؛ فالولايات المتحدة التي تحمست واندفعت إلى غزو العراق العام 2003، واجهت معارضة أوروبية قوية، واليوم تبدو أوروبا متحمسة للتدخل في المنطقة، ولكنها تواجه عقوبة أميركية أو سأماً أميركيا من عجرفة “أوروبا العجوز” التي تريد شراكة بين العبقرية والنصائح الأوروبية والجيوش والأسلحة الأميركية! لكن “العجوز” ليست سهلة، وتبدو جعبتها مليئة بالسحر. كما أنها ما تزال قادرة على اللعب والمشاركة والتأثير أكثر مما تظن الولايات المتحدة!
مشكلتنا في التحليل والتخمين أننا ننظر إلى الأحداث من وجهة نظرنا، مدفوعين بآلامنا وهمومنا، برغم أن التحليل أساسا (كما اللعب أيضا)، هو أن تضع نفسك مكان اللاعب الآخر. هم يراقبون الخريطة ليس نيابة عنا، ولكنهم “هم” وليسوا “نحن”.