المسألة الثالثة التي توقفت عندها في مقال أمس (بشأن موضوع المناهج المدرسية)، تتمثّل في أنّ المعضلة الحقيقية للمناهج المدرسية ما تزال في ضعف النزعة النقدية، العقلانية والواقعية، لدى طلبتنا.
مثل هذه الدعوى ليست جديدة، لكنّها أصبحت اليوم تتطلب تفكيراً جديّاً وعصفاً ذهنياً عميقاً، للمقارنة بما وصلت إليه المناهج والكتب المدرسية في العالم، أو حتى في التعليم الدولي بفروعه المختلفة، والذي يعمل منذ المرحلة المبكّرة جدّاً على تنمية الحسّ البحثي والتفكير والربط لدى الطلبة، ويعزز لديهم استقلالية الشخصية والتفكير واتخاذ القرارات والعمل الجماعي في المشروعات البحثية، وهو أمر أعاينه شخصياً مع أبنائي!
“داعش” لا ينمو فقط في كتب التراث الديني، وإنما ينمو بصورة أكبر في العقلية غير النقدية التي تستسهل القبول بأي مسلمات، بلا تفحّص وتفكير وشكّ. فالبيئة النموذجية المثالية الفضلى لهذا النزوع، تتمثل في تغليب العواطف على العقل، حتى في الكتب التي تدرَّس في بعض الأحيان.
ولعلّ إحدى الآفات الكبرى التي تتحمل مسؤولية كبيرة عن تسهيل عملية “غسل الأدمغة” لشبابنا، هي ما أُطلق عليه “المثالية المفبركة”، فنجعلهم يتعلّقون بماضٍ مثاليّ ناصع الجمال فقط في مخيلاتهم، بينما هو لم يكن واقعياً كذلك، ما يخلق أنموذجاً مثالياً ذهنياً غير واقعي ولا صحيح.
ولأنني أعلم أنّ هناك من سيعترض على هذه الجملة القصيرة، فإن ذلك لا يعني إدانة الخبرة التاريخية الإسلامية عموماً، أو الحكم عليها بصورة معلبة إيجاباً أو سلباً، بل ضرورة أن نقرأ التاريخ بدرجة أكبر من الواقعية والعقلانية والموضوعية، بعيداً عن العاطفة التي غلّفت شطراً من الإنتاج المعرفي في العالم العربي.
هذا يقودني إلى مشكلة حقيقية، في ظني، في ثقافتنا، انعكست بصورة أو أخرى على الكتب المدرسية، وتتمثل في ضمور الفلسفة الواقعية فيها! فالطلبة مغرقون بشعر الغزل والهجاء والمديح والأدب العربي القديم (غالباً)، وهي معرفة جيّدة إلى درجة معينة، بعد ذلك تنقلب إلى “الضد”. بينما هناك قصور شديد في تدريبهم على منهج التفكير الواقعي وربط المفاهيم بالواقع، في مختلف العلوم والمعارف. وربما من العبارات الجميلة لمحمد جابر الأنصاري: لو كنت مسؤولاً عربياً، لفرضت تدريس مقدمة ابن خلدون في المدارس كافة، لأنّها تنمّي النزعة العقلانية لدى الطلبة.
في كتب التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية، يمرّ الطلبة على الموضوعات وعلى تاريخ الحضارات وتاريخ الأنباط (مثلاً)، من دون أن تكون هناك محاولة لترجمة هذه المعلومات الجافة المتراكمة المكثّفة في كتاب التاريخ (للصف السابع مثلاً)، بمشروعات بحثية وأفلام وثائقية واستكشاف لتلك الحضارات والثقافات. بينما في التعليم الدولي، وفي صفوف مبكّرة جداً، يبدأ الطالب يتعرف على ثقافات الشعوب وأديانها والجغرافيا الثقافية والسياسية، فتتولد لديه منهجية واقعية مقارنة عبر مراحل التعليم المتتالية.
الأمر لا يختلف في كتب الرياضيات والفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا؛ إذ برغم أنّ المناهج التعليمية تتحدث عن الجانب التطبيقي والعملي، إلاّ أنّ واقع الحال في تدريس الكتب الصفيّة بعيد تماماً عن ذلك. وما أزال أذكر أنّني سألت عندما كنت طالباً في المرحلة الثانوية أستاذ الرياضيات عن جدوى دراسة اللوغاريتمات، فضحك هو وطلاب الصفّ مستغربين السؤال. ولم أعرف إلاّ قبل أعوام كيف اكتُشف حساب اللوغاريتمات والفائدة العملية من ورائه، وكانت فيزيائية، بينما -وأعتذر للمقارنة مرّة أخرى- في التعليم الدولي الذي يطبق في بعض مدارسنا، يأخذ الطلبة هذه العلوم مقترنةً بصورة كاملة لتطبيقها الواقعي والعملي.
هناك اليوم عشرات الأفلام الوثائقية التعليمية الرائعة حول الفيزياء والرياضيات والكيمياء، فلا داعي للإصرار على الكتب المدرسية والأساليب الراهنة التي تعزل هذه العلوم عن المنهجية الواقعية!