يجادل جون مايكل ثويت وأدريان وولدريج في كتابهما “الثورة الرابعة: السباق العالمي لإعادة اختراع الدولة”، بأن التطورات العلمية والتكنولوجية التي يسميانها “الثورة الصناعية الرابعة”، تفرض على العالم أن يعيد النظر في طبيعة ودور وعلاقات الحكومات والمجتمع والأسواق والأفراد؛ وأن الدولة الحديثة التي صاحبت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر تتعرض للتهديد وربما الزوال، أو بعبارة أصح: تغير في طبيعتها ودورها.
وبالطبع، فإنها ليست فكرة جديدة. وقد عرضت من قبل في “الغد”، قراءات لعدة كتب في هذا السياق، مثل “أفول السيادة: كيف تحول ثورة المعلومات عالمنا”، تأليف ب. روستون؛ وكتاب “الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر”، تأليف بيتر تايلر، وكولن فلنت؛ وكتاب “الدولة المستباحة”، تأليف محمود حيدر. كما يأتي أيضا في هذا السياق تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم للعام 2016، وتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية 2015. والرسالة باختصار هي: “إذا لم تنفّذ الدول إصلاحا جذريا، فإن الديمقراطية مهددة”، يقول ثويت ووولدريج. ويلاحظان أن الأنظمة الاستبدادية أكثر ابتكارا وتحديثا لنفسها، وتوظيفا للتقدم العلمي والتحولات الناشئة عنه.
يعتبر كتاب “ليفياثان”، من تأليف توماس هوبز، في القرن السابع عشر، مؤشرا رئيسا يؤرخ له في استيعاب التحولات والتكيف السياسي معها. ثم جاء جون ستيورات مل ورفاقه في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، بالتأسيس للحريات الفردية. وكان الجيل الثالث من الدولة تعكسه نظريات دولة الرفاه، ومن رواد الفكرة بياتريس ويب.
لقد تضخمت الدولة في العالم؛ سواء المتقدم أو غيره. وقد بذل المحافظون في الثمانينيات (رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر) جهودا لخفض الإنفاق العام. لكن عادت الدول تطور وتزيد إنفاقها في الرعاية الصحية والاجتماعية، وتعيد النظر في السياسات الضريبية لصالح الطبقات الوسطى، وإن كان المناضلون الاجتماعيون يلاحظون في سياسات الدول انحيازا جديدا للأغنياء والشركات الكبرى.
هناك اليوم نموذج الدول الاسكندنافية التي تزاوج بين ضبط الإنفاق العام وتفعيل الرعاية الاجتماعية والخدمات الأساسية. وهناك، أيضا، نموذج سنغافورة، مع تحفظ المؤلفين ثويت ووولدريج عليه، ولكنه يقدم دروسا للعالم في أنظمة التعليم الحكومية والتأمينات الاجتماعية، واجتذاب النخب والأكثر كفاءة للخدمة في الوظائف العامة، فقد كان أسوأ ما أصاب الدول في سياسات الخصخصة هو هروب الكفاءات العلمية والإدارية من القطاع العام.
فكرة “الثورة الرابعة: السباق العالمي لإعادة اختراع الدولة”، ببساطة، هي كيف يمكن الجمع بين تضاؤل الثروات وسياسات التقشف والحفاظ على الرعاية والرفاه للمواطنين؟ هل انتهى عصر دولة الرفاه، أم انتهت مسؤولية الحكومة وحدها عن الرفاه، وصار يجب التفكير في أنظمة اقتصادية اجتماعية جديدة يتشارك فيها الأفراد والسلطة والمجتمعات والشركات (المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص)؟ ثمة إعياء واضح في الأداء العام، وإن كان المثالان الصيني والسنغافوري يبدوان ردا على هذه المقولة، إلا أن أحدا لا يستطيع المراهنة على قدرة الصين في الاستمرار في حالتها القائمة، ولعلها مجبرة على مراجعات استراتيجية، أو تواجه أزمة كبرى تشبه أزمة الاتحاد السوفيتي في أوائل التسعينيات. وهناك أيضا تحديات ماثلة بوضوح تتعامل معها الدول المتقدمة منذ حوالي خمسين سنة، حدثت فيها تطورات عظيمة لم نلتفت إليها؛ بسبب نعومتها وتدرجها.