المأساة السورية غير مسبوقة. بضحاياها. وأشكال القتل فيها. وأمواج اللاجئين والمهجرين. وعدد المنخرطين فيها على جانبي الصراع. وتباين حساباتهم ولغاتهم. ومن يدري فقد تكشف الأيام أن المأساة السورية أشد هولاً وأهمية من المأساة التي عاشها العراق بدءاً من الغزو ووصولاً إلى اليوم. أشد أهمية في نتائجها الإقليمية والدولية معاً.
يمكن الحديث عن صفحة جديدة في هذه المأساة فتحها الانقلاب الروسي المتمثل بالتدخل العسكري على الأرض السورية. يساعد التدخل هذا على فهم سلوك موسكو منذ اندلاع الحريق السوري بما في ذلك الاستخدام المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن.
خدع فلاديمير بوتين من التقاهم على مدى سنوات وبحث معهم التطورات في سورية. خدعهم بجمل قصيرة غامضة وملتبسة وتتسع لتأويلات عدة. لم يخطر في بالهم أنه ينتظر ساعته ليسدد الضربة الكبرى. كان تصاعد الأخطار الوافدة من سورية فرصته السانحة. وكان وجود رئيس من قماشة باراك أوباما فرصته الذهبية. وفي اللحظة المناسبة اتخذ قرار التدخل في سورية.
لا مبالغة في القول أن قرار روسيا التدخل عسكرياً في سورية هو من قماشة القرارات الكبرى والخطيرة التي تشمل أيضاً قرار جورج بوش بغزو العراق. جاء بوش متذرعاً بخطر النظام ومستنداً إلى معارضة يئست من قدرتها على إطاحته. وجاء بوتين متذرعاً بخطورة المعارضة ومستنداً إلى موافقة نظام لم يعد قادراً على حماية معاقله الأخيرة. جاء بوش لإسقاط نظام ورئيس وتغليب المعارضة وجاء بوتين لإسقاط المعارضة وإنقاذ نظام ورئيس.
استغل بوتين أهوال «داعش» والميول الانسحابية لأوباما لإطلاق انقلاب ذي أبعاد استراتيجية. وجه إلى المعارضة السورية ضربة مروعة. حرمها ليس فقط من أي رهان على إسقاط النظام بل أيضاً من الرهان على أي تفاوض معه من موقع قوة أو موقع مكافئ. ولم يرف جفن القيصر حين كشفت الصور أن طائراته تقصف المعتدلين أكثر مما تقصف «داعش» وأن لائحة القتلى المدنيين بفعل غاراتها تتزايد يومياً.
لم يأت بوتين لخوض حرب طويلة مفتوحة. لا يريد أفغانستان جديدة ولا الفوز بلقب «الشيطان الأكبر» في العالم السني. وعليه أن يتذكر دائماً أن الروبل مريض وهو أضعف جنرالاته. لذلك كان لا بد من حماية الانقلاب وتنظيم عملية استثمار نتائجه. كان لا بد من غطاء من قماشة «جنيف 3». وهو غطاء صمم أزياءه الخصم الأول للمعارضة السورية و»داعش» سيرغي لافروف وتبنى الأزياء مساعده الساذج جون كيري وأوكلت إلى ستيفان دي ميستورا مهمة توفير ما يلزم للجنازة من طاولات وأزهار.
يحتاج بوتين إلى الإيحاء بأنه ليس مجرد طائرة «سوخوي» تستكمل تدمير سورية. يحتاج إلى تقديم نفسه صانعاً للحلول. ولأن الحلول صعبة وبعيدة يحتاج على الأقل إلى غطاء لاستكمال مهمته. الغطاء نفسه يحتاجه أوباما الذي هرب من الشرق الأوسط قبل أن يحين موعد هروبه من البيت الأبيض. يحتاج أوباما إلى غطاء في هذه السنة الأخيرة عله ينسي الناس العبارات التي أوقعت المحتجين السوريين في الأمل حين راح يتحدث عن «ضرورة تنحي الرئيس الذي فقد شرعيته». سيدعي لاحقاً أنه رفض الخوض في المستنقع السوري وأنه قبل مغادرته شارك في وضع المأساة على سكة الحل.
واضح أن شروط التقدم نحو الحل ليست متاحة الآن وربما تحتاج إلى نهر جديد من الدم. لكن الغطاء حاجة ماسة. يكفي إطلاق العملية ولو تعذرت النتائج. إطلاق العملية في ظل موازين القوى الإقليمية يريح لاعبين إقليميين كطهران والميليشيات التابعة لها ما دام بقاء النظام مضموناً ولا بحث في مصير الرئيس. مجرد الجلوس تحت عباءة جنيف يعطي انطباعاً أن النظام مستعد للبحث عن حل ويُنسي العالم الصور الوافدة من مضايا وقوارب الموت.
أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتكرر ما شهدته المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية على مدى سنوات وسنوات. أي الجلوس حول الطاولة والتقاط الصور فيما تستمر المأساة وعمليات فرض الأمر الواقع. العملية من أجل العملية ليست مفيدة في المقابل للدول التي تكتوي بأعباء اللاجئين كتركيا والأردن ولبنان. ليست مواتية أيضاً لدول دعمت فعلياً المعارضة السورية كالسعودية وقطر.
في «جنيف 2» شرب النظام السوري السم وذهب إلى اللقاء مع قرار بعدم تقديم أي تنازل. في «جنيف 3» شربت المعارضة السورية السم وذهبت لاحتفال طويل مؤلم لا يتخطى عملية توفير غطاء للانقلاب الروسي على «جنيف 1» و»هيئة الحكم الانتقالي الكاملة الصلاحية» ومرجعية المفاوضات. إننا أمام مجرد محطة في رحلة طويلة مؤلمة.